الإسلام والبيئة (7): الأرض تكفي الجميع، ولكن

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كنتُ أجلس بينهم، متوتّرًا، متشكّكًا، أشعر أنني دخيلٌ على هذا العالم المدمّر. الأطفال كانوا هادئين، عيونهم تعكس حكمة تفوق أعمارهم. أما الشيخ المُسن، فكان واقفًا أمامهم، يلقّنهم درسًا آخر من دروس التاريخ المنسي.

"لم تكن المشكلة يومًا في الأرض، ولكن فيمن أفسدها… فيمن نشر الجشع والخوف بين الناس، حتى صدّقوا أن موارد الكون لا تكفيهم جميعًا."


قاطعته قبل أن يُكمل حديثه، كنتُ أجد نفسي مدفوعًا للدفاع عن الأفكار التي كبرتُ وأنا أسمعها في كل مكان:

"لكن ألا ترى أن عدد البشر كان في تزايد مستمر؟ الموارد محدودة، والمشكلة واضحة: إذا زاد البشر، قلّ نصيب كل فرد. هذه بديهيات اقتصادية لا جدال فيها."

نظر إليّ الحكيم طويلًا، ثم ابتسم ابتسامة فيها شفقة، وقال بصوت هادئ:

"أهي بديهيات اقتصادية… أم خدعة كبرى؟"


سكتُّ، فأكمل حديثه وهو يلتفت إلى الأطفال:

"ألم نتعلم اليوم كيف امتنّ الله على عباده بنعمة التسخير؟"

رفع أحد الأطفال يده بحماس، ثم قال بثقة:

"بلى! قال الله تعالى: 

﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية: 13)."

"وأيضًا"، أضاف طفل آخر،  

﴿هوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ (البقرة: 29)!

أضافت طفلة صغيرة بصوت عذب:

"وقال أيضًا: 

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ.  وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم: 32-34)."


راقبتُ المشهد مذهولًا… هؤلاء الأطفال يحفظون هذه الآيات عن ظهر قلب، وكأنها جزء من كيانهم. كنتُ أبحث عن ردّ، فقلتُ بتردّد:

"لكن هذا لا يعني أن الموارد لن تنفد أبدًا… هناك حدٌّ لكل شيء، وإذا زاد البشر، ستنقص حصتهم حتمًا."

ضحك الحكيم بهدوء، وقال:

"هل تأملت يومًا، كيف يمكن لله، الغني الكريم، أن يمتنَّ على عباده بنعمة، ثم تكون هذه النعمة ناقصة، قاصرة، لا تكفيهم جميعًا؟ كيف يمكن لخالق السماوات والأرض، الذي أحكم ميزان الكون، أن يهب للخلق أرضًا تضيق بهم، وموارد تنفد قبل أن تُلبّي حاجاتهم؟ أَوَيُعقل أن تأتي آيات التسخير والتمكين مجرد كلمات بلا حقيقة، أم أن عقولنا هي التي زُرعت فيها الشكوك حتى نسلم للندرة المزعومة ونتجاهل الفساد الذي صنعته أيدينا؟"


أجبته بعناد لم أجد له مبرراً:

"بلى، ولكن البشر يزدادون عدداً."

أجابني بابتسامة عذبة:

"والأرض تزداد خيراتها أيضاً، أليس كذلك؟ أم تظن أن الله خلق نظامًا مختلًا بحيث تتكاثر المخلوقات دون أن تتكاثر أرزاقها؟"

لم أعرف بماذا أجيب… كنتُ أشعر أنني عالق في فخٍّ منطقي. أكمل الحكيم قائلاً:

"لكن المشكلة ليست في وفرة الموارد… بل في فساد البشر."


ثم التفت إلى الأطفال وسألهم:

"ما الذي قاله الله عن الفساد في الأرض؟"

رفع الجميع أصواتهم في آنٍ واحد:

"ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" (الروم: 41)!

هززتُ رأسي، وحاولتُ التمسك بموقفي:

"لكن العالم الحديث، الاقتصاد، الدراسات، كلها تؤكد أننا بحاجة إلى تقليل الاستهلاك، إلى تقليل البشر أنفسهم، إلى التحكم في الموارد بشكل صارم حتى لا تنهار الحضارة!"


ارتفع حاجب الحكيم وقال بحزم:

"يا بني، دعني أسألك سؤالاً واحدًا: من يملك الموارد اليوم؟ أليس عدد قليل من البشر يتحكمون في أكثر من نصف خيرات الأرض؟"

"بلى… ولكن…"

"وهل تعرف أن بعض الحكومات تدفع المزارعين لإتلاف محاصيلهم حتى لا تنخفض الأسعار؟"

اتّسعت عيناي، فسارع طفلٌ صغير بالقول بحماس:

"في القرن الحادي والعشرين، كانت هناك دولٌ ترمي أطنانًا من القمح في البحر، وتترك الملايين يموتون جوعًا، فقط للحفاظ على الأسعار!"

همس طفلٌ آخر: 

"نحن حفظنا كل هذا، حتى لا نكرر أخطاء الماضي."


أحسستُ بقشعريرة تسري في جسدي… كل شيءٍ قالوه كان صحيحًا… لم تكن المشكلة أبدًا في قلة الموارد، بل فيمن يسيطر عليها، فيمن زرع فينا الخوف حتى نستسلم لاحتكارهم، حتى نقبل بأكذوبة "الندرة" التي تجعلنا عبيدًا تحت رحمتهم.

نظر إليّ الحكيم وقال:

"لهذا، قال الله عن المفسدين: 

‘ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين’ (القصص: 77)، 

وقال أيضًا: 

‘وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد’ (البقرة: 205)."


أخذتُ نفسًا عميقًا… كنتُ أرى الحقيقة، لكنّي لم أشأ الاعتراف بها بسهولة. كنتُ جزءًا من هذا العالم القديم، عالم الأكاذيب المدروسة بعناية، حيث يُقال لنا إن الطبيعة عدوٌّ يجب السيطرة عليه، وإن الجشع "تنمية"، وإن تقليل السكان "ضرورة اقتصادية".

أما هؤلاء الأطفال… فقد تعلّموا الحقيقة منذ الصغر.

نظرتُ إلى الحكيم، وقلتُ بصوتٍ هادئ:

"لقد فهمتُ الآن… الأرض لم تكن عاجزة أبدًا عن إطعامنا… لكنّ أيدينا نحن هي التي جلبت المجاعة."


ابتسم الحكيم، وقال:

"وهذا هو الدرس الذي يجب أن تأخذه معك إلى الماضي… ليكن صوتك عاليًا، أخبرهم أن الأرض تكفي الجميع، لكن الفساد هو الذي جعلها تبدو ضيقة. إن لم يصحوا الآن، فسيلقون المصير الذي تراه حولك."

سكتّ طويلاً، أحدّق في الخراب المحيط بي… ثم نظرتُ إلى الأطفال، وتمنّيتُ لو كان لدينا في زماني أطفالٌ مثلهم، أطفالٌ لم تفسد عقولهم الأكاذيب.

لكن الأمر لم ينتهِ بعد


قال الحكيم فجأة:

"لقد أخبرتك بما قاله القرآن، ولكن، هل تعرف ماذا قال نبيّك عن هذا؟"

نظرتُ إليه، أعرف أن لديه المزيد من الحقائق ليكشفها لي، لكنه ابتسم، وقال:

"هذا سيكون درسنا القادم."


في المقال القادم: كيف تعامل النبي ﷺ مع البيئة؟ وكيف سبق الإسلام العالم في حماية الأرض؟

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام