الإسلام والبيئة (8): الماء.. النعمة المهددة
جلستُ بجوار الرجل الحكيم، بينما تجمع الأطفال حولنا، يصغون إليه كما لو كان ينقل إليهم أسرار الكون. على الأرض أمامنا، حفرة عميقة كانت شاهدة على ما كان يومًا ما نهرًا يجري بالحياة. الآن، لم يبقَ منه سوى الغبار.
نظر إليّ الرجل الحكيم بعينين يملؤهما الأسى، وقال:
"ألم تقرأوا في قرآنكم قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حيّ)؟ فكيف تدّعون الإيمان ثم تفرّطون في سرّ الحياة؟"
ترددتُ قليلًا، ثم حاولت أن أبرر:
"لكن أعداد البشر تضخّمت، والاستهلاك زاد، والماء لم يعد يكفي الجميع."
ضحك الحكيم بحزن، وقال:
"وهل خالقكم يجعل أرزاقكم أقل مما تحتاجون؟ أنتم الذين جفّفتم منابع الحياة بأيديكم، ثم ألقيتم اللوم على الأقدار!"
أشار إلى بقايا أرصفة مدينة منهارة، وقال:
"كان هنا نهرٌ يشقّ الأرض، لكنه اختفى. هل تعرف لماذا؟
لأن المصانع لوّثته حتى مات، والزراعة الحديثة حمّلته بالمبيدات حتى اختنق، والسدود التي بناها الجشعون حرمت الأرض من جريانه، فماتت الأشجار، وتبعتها الحيوانات، ثم الإنسان نفسه."
أحد الأطفال قال بحماسة:
"لقد تعلّمنا أن رسول الله ﷺ نهى عن تلويث الماء، حتى قال: (لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه)."
هززتُ رأسي وقلتُ:
"لكن الأمر أكبر من مجرد البول في الماء! نحن نتحدث عن أزمة عالمية!"
قال الحكيم:
"نعم، أزمة صنعتموها بأيديكم.
أرأيتَ كيف تتحكم الشركات الكبرى في موارد المياه، فتبيعها لكم بعد أن كانت هبة من الله؟
أرأيتَ كيف تستهلك الصناعات الثقيلة ملايين الأطنان من الماء، ثم تلوثه، بينما يموت الفقراء عطشًا؟
هل تعلم أن بعض الدول تمنع سكانها من جمع ماء المطر حتى يضطروا لشراء الماء المعبأ؟ أي استعباد هذا؟"
أدركتُ أنني في مأزق. هذه الحقائق لم تكن تُذكر في الإعلام الرسمي. كنتُ أعتقد أن الطبيعة هي التي تغيّرت، وليس البشر هم من أفسدوا النظام بأيديهم.
قال الحكيم:
"أنتم تتحدثون عن قلة الأمطار، لكن هل سألتم أنفسكم لماذا؟
قطعتم الأشجار، حوّلتم الأرض إلى غابات إسمنتية، نفثت مصانعكم دخانها في الهواء فاختنق الغلاف الجوي، فاحترّ الكوكب، وبدأت دورة المطر تتلاشى."
سألتُه بحيرة:
"لكن الإسلام جاء منذ أكثر من 1400 عام، ولم يكن هناك مصانع، فكيف يمكن أن تكون تعاليمه صالحة لحل هذه المشكلات الحديثة؟"
ابتسم الحكيم وقال:
"لأن المشكلة لم تكن يومًا في الآلات، بل في الإنسان الذي يستخدمها. لو اتبعتم تعاليم نبيكم، لما بلغتم هذا الحال.
ألم يقل: (من قطع سدرة، صوّب الله رأسه في النار)؟
هل تعلم أن المسلمين الأوائل كانوا يوقفون الآبار والعيون العامة للناس، لا يبيعونها كما تفعلون اليوم؟ عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى بئر رومة وجعلها وقفًا للناس، فهل فعل أحد منكم ذلك اليوم؟"
نظرتُ إلى الأطفال، الذين كانوا يدوّنون كل كلمة، وكأنهم يستعدون لحمل هذه الرسالة عبر الزمن. قال أحدهم:
"لقد حفظنا حديث رسول الله ﷺ: (أفضل الصدقة سقي الماء)، لكنهم اليوم يبيعونه، بل ويجعلونه تجارة للأغنياء فقط."
شعرتُ بالعار. نحن الذين كنا نظن أنفسنا متحضرين، قد فرّطنا في أقدس نعم الله.
نهض الحكيم، وقال بصوت قوي:
"إن كنتَ ستعود إلى زمنك، فأخبرهم أن الماء ليس سلعة، وأن الأرض ليست ملكًا لكم تعبثون بها كما تشاؤون، بل هي أمانة ستُسألون عنها.
أخبرهم أن الإسلام لم يكن مجرد عبادات، بل كان نظامًا يحفظ الكون قبل أن تخسروه."
صمت الشيخ فترة وكأنه يستجمع أفكاره ثم قال:
"لكنّ الحل لم يكن يومًا بعيدًا، ولم يكن معقدًا كما يظن كثيرون. إنّ هذا الكون، الذي اختلّ توازنه بفساد أيدي البشر، لم يُترك بلا سبيل لإصلاحه. لقد دلّنا الله عز وجل على مفتاح الرزق والبركة منذ الأزل، فقال:
﴿فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا * يرسل السماء عليكم مدرارًا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا﴾ [نوح: 10-12].
فالتوبة والاستغفار ليسا مجرد كلمات، بل هما عودة إلى منهج الحياة السليم، تصحيح للمسار، واعتراف بأن موارد الأرض لن تُبارك إلا إذا سُخّرت بالعدل والقسطاس. ألم يقل نبي الله هود لقومه:
﴿ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين﴾ [هود: 52]؟
ألم يقُل ربنا حكاية عن أهل الكتاب:
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 66]؟"
فكيف نرجو المطر والبركة، وقد أغرقنا الأرض بالفساد وأغلقنا أبواب الرحمة بذنوبنا؟
صمت الجميع، وبقيتُ أردد في عقلي:
ماذا لو كان هذا المستقبل هو ما ينتظرنا؟
Comments
Post a Comment