الإسلام والبيئة (9): التقدّم بلا تلوث.. وهمٌ مستحيل أم حقيقة غائبة؟
كان المساء قد حلّ على تلك الأرض القاحلة، حيث اجتمع الأطفال حول الرجل الحكيم يستمعون إلى درسه اليومي، بينما كنتُ جالسًا بجواره، لا تزال في رأسي أصداء نقاشاتنا السابقة. لكنّ فكرة واحدة كانت تضغط على عقلي:
أليس التلوث ضريبة لا بد منها لدفع عجلة التقدّم؟ ألا يتطلّب التطوّر الصناعي والآلي بعض الأثمان؟
نظرتُ إلى الشيخ وقلتُ:
"يا حكيم، كل شيء له ثمن، والتلوث هو الثمن الذي دفعته البشرية لقاء النهضة الصناعية. إما أن نقبل به، أو نعود إلى حياة البداوة، فنركب الحمير والبغال، ونضيء السراج بدل الكهرباء، ونترك المصانع والتكنولوجيا الحديثة."
ساد الصمت لثوانٍ، ثم نظر الشيخ إلى الأطفال وقال:
"ألم نناقش من قبل أن لكل داء دواء؟" أومأ الأطفال برؤوسهم.
ثم التفت إليَّ قائلاً:
"وهل ترى أن تطوّر البشرية يستلزم صنع أسلحة الدمار الشامل؟ أو تلويث الأنهار بالمخلّفات السامة؟ هل التقدّم يُحتّم أن تَحجب السماء بالدخان، أو أن يختنق الهواء بروائح المصانع؟ يا بني، ليس التقدّم هو المشكلة، بل الطمع والجشع وسوء الإدارة."
أضاف أحد الأطفال بحماس:
"القرآن يقول: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56]! فالله خلق الأرض متوازنة، ونحن أفسدناها."
ابتسم الشيخ وقال:
"أحسنت. الإسلام لا يحارب التقدّم، بل يضع له ضوابط تحمي الإنسان والبيئة. لقد أقرّ الإسلام مفهوم التنمية المستدامة قبل أن يخترعه علماء البيئة بقرون، فقال النبي ﷺ: إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا [رواه أحمد]. هل في هذا دعوة للرجوع إلى حياة الكهوف أم لاستمرار التقدّم دون تدمير الأرض؟"
أطرقتُ مفكرًا، فقال طفل آخر:
"لماذا يجب أن نستخدم الوقود الملوِّث؟ هناك طاقة شمسية، وطاقة الرياح، ومصادر أنظف للطاقة."
ثم أكمل ببراءة:
"لكنهم لا يستخدمونها لأنهم يريدون بيع النفط والفحم، أليس كذلك؟"
نظر الشيخ إليّ مجددًا وقال:
"وهذا ما نقصده. العالم لا يعاني بسبب التقدّم، بل بسبب سوء استخدامه. الإسراف، الجشع، والبحث عن الربح بأي ثمن هو ما صنع هذه الكارثة. لو سار البشر على مبدأ الإسلام في الاعتدال، لما وصلوا إلى هذا الدمار." ثم تلا قول الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 26-27].
قلتُ ببطء:
"إذن، ليست المشكلة في الآلات والتكنولوجيا، بل فيمن يديرونها وفي قراراتهم... إنهم هم الذين قرّروا بناء المصانع فوق الأنهار، واستنزاف الموارد بلا تخطيط."
أومأ الحكيم قائلاً:
"بالضبط. والإسلام وضع لنا قاعدة عظيمة في ذلك: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ [رواه مالك]. فلا يجوز أن نتقدّم على حساب تدمير الطبيعة، كما لا يجوز أن نترك التقدّم لأنه يحمل بعض المخاطر." ثم نظر إليّ وقال: "يا بني، لقد كنتم تظنّون أن التقدّم حتمًا يجلب التلوث، لكن الحقيقة أن التقدّم الحقيقي هو الذي يراعي التوازن والعدل، ويُبقي هذا الكوكب صالحًا للحياة."
في تلك اللحظة، شعرتُ وكأن شيئًا بداخلي قد تغيّر. لم يكن عليّ الاختيار بين التقدّم أو الحفاظ على البيئة... كان عليّ فقط اختيار السبيل الصحيح لتحقيق التقدّم.
Comments
Post a Comment