سلسلة خواطر: الموت... حين تطرق الحقيقة أبوابنا

 

سلسلة خواطر

يأتي الموت بغتةً، فلا يطرق بابًا، ولا يستأذن أحدًا، بل يختطف الأرواح ويمضي، تاركًا وراءه قلوبًا مكلومة، وعقولًا حائرة تتساءل: 

ماذا بعد؟ وهل كنا مستعدين لهذه اللحظة؟

الموت ليس مجرد نهاية لحياة دنيوية، بل هو انتقال إلى عالم آخر، عالم الحساب والجزاء، عالمٌ لا مجال فيه للعودة أو التصحيح، فقد قال الله تعالى:

 "حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ ۝ لَعَلِّيٓ أَعْمَلُ صَٰلِحًۭا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون: 99-100). 

إن أعظم ما يملكه الإنسان في هذه الدنيا هو فرصة العمل قبل أن يُغلق باب الزمن.


الحقيقة التي لا مهرب منها

الموت هو اليقين الذي لا يشك فيه أحد، وقد قال الله تعالى:

 "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (آل عمران: 185). 

فليس الأمر متعلقًا بالعمر أو القوة أو الغنى، إنما هو موعدٌ كتبه الله في اللوح المحفوظ. وإن أعظم ما يفعله المؤمن هو الاستعداد لهذا اللقاء بالإيمان والعمل الصالح.


هل نحن مستعدون؟

حينما نشهد وفاة أحدٍ قريب، نشعر بالرهبة، لكن سرعان ما يعود كل شيء إلى مجراه، وكأننا لم نرَ تلك العبرة تمر أمام أعيننا! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: 

"أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" (رواه الترمذي)؟ 

فالموت ليس مجرد حدث عابر، بل هو دعوة مستمرة لإعادة ترتيب الأولويات، وتصحيح المسار قبل فوات الأوان.


حين يخلف الإنسان أثره

حين يغادر الإنسان هذه الدنيا، لا يبقى منه إلا عمله وأثره في الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: 

"إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (رواه مسلم). 

فليتدبر كل واحد منا: ماذا سأترك خلفي؟ هل سأكون ذكرى طيبة يتحدث عنها الناس بالدعاء، أم مجرد اسم يُنسى مع مرور الأيام؟


العبرة التي يجب أن نتأملها

الموت هو الحقيقة التي لا نملك أمامها خيارًا، لكنه ليس النهاية، بل هو بوابة إلى دار القرار. كثيرون يعيشون وكأنهم مُخلَّدون، يكدحون لجمع المال وكأنهم سيحملونه معهم، وينشغلون بسفاسف الأمور ويهملون حقيقة أن الرحلة قصيرة جدًا. قال الحسن البصري:

 "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك".


كيف نواجه الفقد؟

الفقد موجع، لكنه جزء من سنن الله في الكون، وما يصبر القلب إلا اليقين بلقاء الأحبة في دار الخلود، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: 

"إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" (رواه البخاري). 

الحزن لا يتناقض مع الإيمان، لكن الاستسلام له يُضعف العزيمة، فليكن حزننا دافعًا للعمل والاقتراب من الله.


الوفاء بعد الرحيل

إلى الزوجة والأبناء، إن فقدان الزوج والأب ليس بالأمر الهين، لكن العزاء الحقيقي في ما قدّمه من خير وما تركه من أثر. وأعظم ما يمكن تقديمه له الآن هو الدعاء والاستغفار والوفاء له ببرِّ أهله وأصدقائه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ" (رواه مسلم). 

ليكن الفقيد حاضراً في قلوبكم بالدعاء والعمل الصالح، ولتكن ذكراه دافعًا لكم للعيش بما كان يحب أن يراكم عليه.


خاتمة

الموت ليس النهاية، بل هو بداية مرحلة جديدة، فمن عاش على الطاعة مات على الطاعة، ومن مات على الطاعة بُعث على الطاعة. فلنسأل أنفسنا في كل يوم: هل أنا مستعد للقاء الله؟

اللهم اجعلنا ممن يُقال لهم: 

 "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ٱرْجِعِىٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةًۭ مَّرْضِيَّةًۭ ۝ فَٱدْخُلِى فِى عِبَادِى ۝ وَٱدْخُلِى جَنَّتِى") الفجر: 27-30(.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام