نهضة بلا إذن (14): التربية على الوعي

 

سلسلة نهضة بلا إذن

حين نتحدث عن النهضة، فإننا لا نقصد بناء الجدران العالية أو رفع الشعارات الحماسية، بل نتحدث عن بناء الإنسان. والإنسان لا يُبنى بالمعلومة وحدها، بل بالوعي. والوعي لا يُورث، بل يُربّى.


ما هو الوعي الذي نعنيه؟

الوعي ليس أن تعرف ما يحدث، بل أن تفهم لماذا يحدث، وكيف تشارك في تغييره. هو أن ترى ما وراء الصورة، وتفكّك الرواية الجاهزة، وتربط بين الماضي والحاضر، وتستشرف المستقبل. أن تطرح الأسئلة التي لا تُطرح، وأن تُعيد النظر في "البديهيات" التي تربّينا على التسليم بها.

لكن هذا الوعي لا ينشأ فجأة، ولا يولد مع الإنسان، بل يحتاج إلى تربية طويلة، تبدأ منذ الطفولة، ولا تتوقف حتى آخر العمر.


كيف نربّي على الوعي؟

في أزمنة الظلم والتضليل، تصبح التربية على الوعي أخطر من التربية على القوة. لأن الوعي هو النور الذي يفضح الزيف، ويكشف الخداع، ويعيد تعريف المعركة. وإليك بعض الخطوات العملية، التي يمكن غرسها في الأفراد والمجتمع:


التشكيك الواعي لا التخوين الفوضوي

علّم أولادك ومحيطك أن يسألوا "لماذا؟" دون أن يصبحوا عدميين أو ناقمين على كل شيء. الشك هنا ليس طعنا في الدين أو المبادئ، بل مقاومة للبلادة والتكرار.


قصّ القصص لا الحكايات

استخدم التاريخ لتعليم الفهم، لا للتسلية. حدّثهم عن كيف سقطت الأندلس وصقلية، لا متى. حدّثهم عن فكر ابن خلدون لا فقط عن نسبه. اربط الوقائع بالتحليل.


الربط بين ما هو شخصي وما هو عام

علم الناس أنّ همومهم ليست فردية، بل هي انعكاس لحالة الأمة. اجعلهم يرون الظلم في المدرسة أو الوظيفة كجزء من شبكة ظلم أكبر، وليس مجرد حظ سيئ.


استخدام كل وسيلة متاحة

مقاطع فيديو قصيرة، منشورات، بودكاست، دردشات غير رسمية... كل هذه أدوات لتفتيت الغفلة اليومية. لا تنتظر منبرا كبيرا، بل كن أنت المنبر.


الوعي لا يعني الكآبة

لا تظن أن الوعي يجب أن يصاحبه الاكتئاب. بل العكس: الوعي الحقيقي يولّد الأمل الحقيقي. لأنه يرى الطريق، ولو كان طويلا.


لماذا هذا مهم اليوم؟

لأننا نعيش في عالم يعج بالمعلومات لكنه يفتقر للفهم. شعوبنا تعرف ما يحدث، ولكنها لا تدرك كيف تشارك فيما يحدث، أو حتى لماذا يهمها الأمر أصلاً.

وحين يغيب الوعي، تصبح الأمة كمن يستيقظ في بيت يحترق، لكنه لا يعرف من أين تأتي النيران، ولا كيف يُخمدها، فيركض عبثاً حتى يختنق بالدخان.


إننا اليوم في حاجة إلى أن نربّي جيلا لا يكتفي بقراءة العناوين، بل يتأمل بين السطور. جيلا يفرّق بين الحق الذي لا يُقال، والباطل الذي يُقال ألف مرة. جيلا لا يُساق، بل يسير عن وعيٍ ويقين.

هذه التربية ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية لأمة تُريد أن تنهض... بلا إذن.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام