نهضة بلا إذن (15): التربية على الوعي… حين تبدأ النهضة من المهد

 

سلسلة نهضة بلا إذن

في كل حضارة عظيمة، لا تبدأ النهضة من القصور، بل من العقول. ولا تُبنى على قوة السلاح، بل على وعي الإنسان. وفي كل حضارة سقطت، لم يكن السبب نقص السيوف، بل نقص الأسئلة.

ولهذا فإن أول خطوات النهوض الحقيقي تبدأ من حيث يبدو الجميع غير مهتم: تربية الوعي.


لماذا نبدأ بالوعي؟

لأن الغفلة اليوم ليست نتيجة جهل، بل نتاج تربية كاملة قائمة على تعطيل التفكير. نحن لا نفتقد المعلومة، بل نفتقد "طريقة النظر" إليها. نرى الاحتلال، فلا نفهم طبيعته. نرى الذل، فنعتاده. نرى التخلف، فنظنه طبعاً.

كان مالك بن نبي يقول: 

"الأفكار لا تعيش إلا إذا شعّت في ضمير فرد، ثم انتقلت إلى الضمائر من حوله"، ولكن كيف تنشأ هذه الضمائر المستعدة لتلقي الفكرة؟ وكيف تُربّى؟


فلسفة التربية على الوعي

الوعي ليس شيئا يُلقَّن، بل هو نتيجة احتكاك دائم بين الإنسان والواقع من جهة، وبين الإنسان والفكرة من جهة أخرى. ولهذا فإننا حين نتحدث عن "تربية على الوعي" فنحن لا نتحدث عن تعليم يُقدَّم، بل عن تشكيل يُصاغ.

إنها تربية على الرؤية، على القراءة، على التفسير، على الفهم العميق، على تجاوز الظاهر دون الوقوع في فخ "نظرية المؤامرة".

وهي في الوقت ذاته تربية على الشك النبيل لا النقمة العدوانية، على الاستفزاز الفكري لا الارتهان العاطفي.


لمحة تاريخية: من غفلة الجماهير إلى يقظة الشعوب

حين فاجأت الثورة الفرنسية طبقة النبلاء، لم يكن السبب أن الناس "جاعوا فجأة"، بل لأن هناك مفكرين وأدباء وفلاسفة ربّوا أجيالا على أن ترى الظلم.

وحين خرج الناس في مصر ضد الحملة الفرنسية، لم تكن ثورة جياع فقط، بل سبقتها جهود علماء ومصلحين – من أمثال عمر مكرم والشيخ الشرقاوي – في بثّ وعي ديني ووطني.

وحين وُلدت المقاومة الفلسطينية، لم تولد فقط من الألم، بل من سرديات الوعي. من المساجد، والمدارس، والحوارات، والنشرات السرية، وأحاديث الجدات.

هذا هو قانون النهوض: لا نهضة بلا وعي، ولا وعي بلا تربية.


خطوات عملية نحو تربية الوعي

دعنا ننتقل الآن من التأمل إلى العمل:

  1. ابدأ بالمحيط الصغير
    إذا كنت أبا، فاجعل الحوارات العائلية أكثر عمقاً. اسأل أولادك عن آرائهم في الأحداث، لا تلقّنهم. وإن كنت معلماً أو مؤثراً، فاجعل منصتك ساحة أسئلة لا منبراً للخطابة.

  2. درّب نفسك ومن حولك على "تأمل الخبر"
    لا تقرأ الحدث بل اقرأ ما وراء الحدث. من المستفيد؟ من الخاسر؟ ما الرواية الغائبة؟
    هذا التمرين البسيط يومياً يصنع أجيالا تُفكّر لا تُصفّق.

  3. اشرح لا تصرخ
    أن تصرخ في وجه الظلم لا يكفي. فسّر للناس لماذا هو ظلم. كثيرون لا يعارضون الطغيان لأنهم لا يفهمونه، لا لأنهم يؤيدونه.

  4. صِل الفكرة بالحياة اليومية
    اربط بين فساد التعليم وهزائم الأمة، بين الظلم الإداري وخضوع الشعوب، بين ضعف الشخصية الفردية وهوان الجماعة.

  5. اصنع من نفسك منارة
    لست بحاجة إلى آلاف المتابعين لتكون مصلحاً. يكفي أن تنير عتمة من حولك. الفكرة تشبه الشرارة… تنطلق من ضمير، وتصل إلى الضمائر الأخرى.

ملاحظة مهمة: لا تستخف ببطء النتائج

الوعي لا يظهر في يوم وليلة. قد تُنكر عليك محاولتك الأولى. قد يسخر منك أقرب الناس. ولكن لا تيأس. فحتى النبي ﷺ ظل ثلاثة عشر عاماً في مكة لا يزرع إلا فكرة "لا إله إلا الله"، دون أن يحمل سيفاً ولا يقيم دولة. لأنه كان يربّي وعياً، لا فقط يجمع أتباعاً.


خاتمة:

إننا اليوم لا نحتاج فقط إلى من يحمل السلاح، بل إلى من يحمل السؤال. لا نحتاج فقط إلى من يثور، بل إلى من يفكّر. لا نحتاج فقط إلى "بطولات فردية"، بل إلى حراك فكري جماعي يولّد يقظة جماعية.

ومن هنا نبدأ… لا بإذن أحد، بل بإرادة الله، ثم وعي أمة.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام