نهضة بلا إذن (16): معوّقات تربية الوعي في مجتمعات مأزومة
ليست المشكلة أننا لا نزرع بذور الوعي، بل أن الأرض التي نزرع فيها مثقوبة، أو منخورة، أو ملوّثة… أو أنها ببساطة تحت المراقبة.
تربية الوعي ليست مجرد مهمة شريفة، بل هي معركة حقيقية ضد جيوش خفيّة من العوائق: نفسية، اجتماعية، ثقافية، وسياسية.
دعنا نتوقف عند أهمها، ولكن بلغةٍ بسيطة، ووعي عميق، وعينٍ ترى الطريق رغم كل الحجب.
أولاً: المعلومة بلا سياق… حين يغرق الناس في التفاصيل
نحن نعيش في
عصر "التخمة المعرفية"، ولكننا نفتقر إلى الهضم الفكري.
نقرأ الكثير،
نسمع أكثر، لكننا لا نربط، لا نفسّر، لا نسأل: "لماذا؟"، "متى بدأ
هذا؟"، "ما الذي يُراد لي أن أظنه طبيعيًا؟".
هنا يكمن الخطر: أن نحصل على المعلومة من كل مكان إلا العقل.
وهكذا يُصبح المجتمع مثل من يحمل كتبًا لا يفهمها، أو أدوات لا يعرف استخدامها، أو أرقامًا لا يدري كيف يقيس بها واقعه.
فالتربية على الوعي لا تبدأ بإعطاء المعلومة، بل بتعليم السؤال.
ثانياً: وهم الاستقرار… أكبر عدو للنهضة
من أخطر
معوّقات الوعي شعور الناس بأن "الوضع لا بأس به".
إنهم لا يشعرون
بالانهيار لأنهم يعيشون وسطه منذ الصغر.
لا يرون التخلف
لأنه صار البيئة الطبيعية لهم.
ولهذا تجد من يقول لك حين تشرح له حال الأمة:
"الحمد لله، نحن بخير. لا داعي للمبالغة."
لقد رُبّي على وهم "الرضا" حتى صار يتعامل مع الطغيان كقسمة ونصيب، ومع الاستبداد كقدر محتوم، ومع التبعية كحكمة سياسية، ومع الذل كأدب!
ثالثاً: التواطؤ الثقافي… حين تُكرّس المؤسسات الجهل باسم الطاعة
بعض المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية، بدل أن تكون منصات لبثّ الوعي، أصبحت أدوات لإدامة الغفلة.
حين يُعلَّم الناس أن التفكّر تمرد، وأن النقد حرام، وأن الطاعة تعني التسليم المطلق، فهم في الحقيقة يُمنَعون من "الترقّي الإنساني"، وليس فقط من التفكير.
وحين يُربّى الطفل على ترديد الأجوبة دون أن يُسمَح له بطرح الأسئلة، فمتى – بالله عليك – سيكون صاحب وعي مستقل؟
رابعاً: الإرهاب الاجتماعي… الخوف من الخروج عن السرب
ليست السلطة
فقط من تقمع الوعي…
أحيانًا، الأسرة،
المجتمع، الأصدقاء، وحتى الأقارب يفعلون ذلك.
الخائف من أن
يقال عنه "مختلف"، أو "معقّد"، أو "عديم الواقعية"،
لن يجرؤ على التفكير خارج الصندوق.
إنه يخشى النبذ
أكثر مما يخشى الجهل.
ولهذا ترى كثيرًا من الناس يكرّرون الأكاذيب الجماعية وهم يعلمون أنها أكاذيب، فقط ليبقوا داخل "نطاق القبول".
خامساً: فقدان القدوة المفكّرة
الأمة تحتاج
إلى رموز، ولكنها اليوم غارقة في رموز سطحية.
قدواتنا اليوم
إما مشاهير بلا عمق، أو دعاة بلا وعي سياسي، أو مثقفون يكتبون لأنفسهم لا لأمتهم.
لكن التاريخ يخبرنا أن النهضات لا تبدأ من الجماهير، بل من المفكرين الذين يتحدثون بلغة الناس، ومن الروّاد الذين يحملون همّ الأمة في صدورهم، لا فقط في مقالاتهم.
فحين يغيب هذا النموذج، لا يتربى على الوعي إلا القلّة، وتفقد الأمة بوصلتها.
فماذا نفعل؟
لن نكتفي بوصف المشكلة، فهذا ضد مبادئ هذه السلسلة.
إليك ثلاث خطوات عملية للمواجهة:
- أشعِل
الأسئلة
لا تعطِ الأجوبة الجاهزة دائمًا. علّم أطفالك وطلابك وأصدقاءك أن يسألوا، حتى وإن كانت الأسئلة مزعجة. الوعي يولد من رحم السؤال، لا من سكينة الجواب. -
لا تنتظر مناهج التعليم. أنشئ مجموعة قراءة، أو دردشة أسبوعية، أو لقاءً شهرياً تُناقَش فيه القضايا المصيرية بعمق وصدق. حتى الجلسات العائلية قد تكون بداية نهضة مصغرة. -
اقرأ، ناقش، استمع، طوّر تفكيرك، صحّح مفاهيمك، وكن مصدر إلهام في محيطك. قد لا يؤمن بك أحد في البداية، ولكن الزمن ينصف من يبدأ قبل غيره.
خاتمة:
تربية الوعي هي
الحرب التي لا تُطلق فيها الرصاصات، ولكنها تغيّر وجه التاريخ.
والمعركة ليست
سهلة… لأن الغفلة مريحة، والجهل آمن، والتفكير مُتعب.
لكننا لا نبحث
عن الراحة، بل عن النهضة.
ولا ننتظر
الإذن، بل نصنع الطريق… ونمضي.
Comments
Post a Comment