نهضة بلا إذن (18): كيف نصنع الإنسان الواعي؟

 

سلسلة نهضة بلا إذن

إذا كانت النهضة تنتظر "الإنسان الواعي"، فإن التربية عليه ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية.
ولأن هذا الإنسان لا يُولد جاهزًا، بل يُصنع، فإن مشروعنا النهضوي لا يكتمل حتى نمتلك أدوات هذا الصنع، ومناهج هذا التكوين.

لكننا هنا لا نبحث عن مناهج مدرسية، ولا عن محاضرات جامدة،
بل عن أساليب تربوية حيّةتولِّد الوعي، وتغرس السؤال، وتشعل الفكر، وتُبقي الضمير مستيقظًا.

فما هذه الأساليب؟ وكيف نُفعّلها في بيوتنا، مجتمعاتنا، مدارسنا، مساجدنا، وساحاتنا الرقمية؟


1. صناعة الوعي تبدأ بالسؤال لا بالإجابة

لا تُربي الإنسان على ما تقول له، بل على ما تجعله يسأل عنه.

بدلاً من أن تلقنه "التاريخ الصحيح"،
اسأله: "من كتب التاريخ الذي ندرسه؟ ولماذا؟"

بدلًا من أن تُملي عليه "الواجب الديني"،
اسأله: "ما الذي يجعل الإنسان مسؤولًا أمام الله؟"

بدلاً من أن تُقنعه بـ"عدالة قضية"،
دعه يرى الصور، ثم اسأله: "لو كنت في مكانهم، ما الذي كنت ستشعر به؟"

السؤال يُوقظ الضمير.
والضمير حين يستيقظ… يبدأ مشوار الوعي.


2. اترك له مساحة أن يختلف

الإنسان الواعي لا يُصنع في جوّ التلقين والخوف والنسخ.

أجبته بشيء وقال: "لا أتفق معك!"
ممتاز… هذا أول خيط من شخصيته المتمايزة.

اعترض على ما قيل له من معلمه أو شيخ حارته؟
دعه يشرح لماذا، وناقشه… لا تُخرسه.

الاختلاف هو تمرين مبكر على التفكير.
وإن لم نُتيحه، فلن نخرج من تحت عباءة التقليد أبدًا.


3. أربِطه بالقضية الكبرى، لا بالمادة الجافة

إن التعليم الذي لا يتصل بالقضية… يولّد شخصًا مثقفًا، لكنه ليس واعيًا.

الواعي هو من يرى العلاقة بين:

  • دراسته للتاريخ… وبين فلسطين.
  • فهمه للعقيدة… وبين الحرية.
  • حديثه عن العدالة… وبين أنظمة بلاده.

اجعل كل معلومة تُروى، وكل قصة تُقال، وكل درس يُعطىمرتبطًا بسؤال: "ما علاقتها بمستقبل الأمة؟"


4. اتركه يتورط!

نعم، ليتورط ويشارك في العمل العام، في خدمة الناس، في مشاريعه الصغيرة، في التفكير في البدائل، في إعداد مبادرة، في إدارة حملة.

الوعي لا يُلقّن فقط… بل يُعاش.
حين يخطئ، يتعلم.
حين يصيب، يتشجع.
حين يرى النتيجة بعينه، يتغير فهمه للأشياء.

من لا يتورط… لا يتحوّل، ومن لا يُشارك... لا يتشكّل.


5. غيّر البيئة، لا فقط العقل

ليس كافيًا أن تغيّر الأفكار… غيّر معها:

  • نوع الأصدقاء.
  • اللغة المتداولة.
  • نوع المحتوى المُشاهد.
  • القدوات التي يُحتفى بها.

فالإنسان ابن بيئته، وإن لم تُعد تشكيل البيئة، فلا تلم الأفكار حين تعجز عن البقاء.


6. خذ بيده للواقع… ثم للبديل

لا يكفي أن تشرح له الواقع، لا بد أن تُشركه فيه.
خذه في زيارة لمخيم لاجئين، أو شاهد معه جلسة محكمة ظالمة، أو راقبا معًا ردود فعل الناس على مأساة جديدة

ثم بعد ذلك

اجعله يسأل: "ما البديل؟"
"
ما الذي كنت سأفعله لو كنت في موضع القرار؟"
"
كيف أبدأ في التغيير ولو بشيء صغير؟"

هنا تتكوّن شخصية النهضة.


7. لا تستهِن بالكلمة، ولا بالمشهد، ولا باللحظة

أحيانًا تغير عبارة واحدة كل شيء.
أحيانًا يوقظ مشهد فيلِميّ سؤالًا ظل نائمًا.
أحيانًا توقظ لحظة انكسار... مشروعًا فكريًا جديدًا.

فلا تُهمل التفاصيل.
فهي وحدها التي تصنع الإنسان الحقيقي في آخر الأمر.


خاتمة: التربية على الوعي مشروع أمّة

الوعي لا يُصنع في دورة تدريبية، ولا في موسمٍ عابر.
إنه مشروع طويل النفس، يبدأ من الأسرة، ويمر بالمسجد، ويتسلل إلى الإعلام، ويستقر في المدرسة، ويتحول إلى خطاب شعبي.

وكل إنسان واعٍ… يُنبت عشرة غيره.

فلنبدأ بطفل في بيوتنا… بشاب في محيطنا… أو بنا نحن أنفسنا.
فالنهضة لا تنتظر الإذن… لكنها تنتظر الوعي
.


Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام