نهضة بلا إذن (21): كلما مشيت أكثر.. قلّ الرفاق
كل فكرة صادقة لا تلبث أن تجد في طريقها رفاقًا كُثُرًا في بداياتها. يتقاطرون عليها من كل فجٍّ وهُم يتعطّشون للمعنى والجدوى، وفي قلوبهم أمل أن يكون هذا الطريق مختلفًا.
ولكن، ما إن تبدأ الفكرة تمشي بثبات في طريقها، وتبدأ الأسئلة العميقة تُطرح، وتتضح وجهات النظر، حتى يُفترز الطريق، ويبدأ التباين، وتنكشف القلوب وتتمايز الهمم.
هذا طبيعي. بل حتمي.
فإذا انطلقت موجة الوعي الحضاري، فاعلم أنها لن تكون موحدة اللون ولا الصوت.
سيتلقفها من تربى في مدارس التغريب، ومن تأثر بالمادة، ومن تشرب مناهج التجديد الديني، أو الدعوات السلفية، أو حتى من تأثّر بالمذاهب اليسارية أو الكمالية أو الوهابية. سيحملها كلٌّ بما عرف، وبما ظنّ أنه هو الطريق الحق.
هذا لا يخيفنا.. إن اتفقنا على الجوهر
النهضات ليست لقاء فكر واحد، بل لقاء همٍّ مشترك.
ليست وحدة في التفاصيل، بل وحدة في الاتجاه العام: إرادة الانعتاق من الوهم، والفرار من الاستلاب، والخروج من الخرافة، وبناء عقلٍ يُفكر، وضميرٍ يختار، وسلوكٍ يُثمر.
وقد رأينا في تاريخنا، بل وفي كل نهضة بشرية، أن التعدد في البدايات قد يكون مصدر إثراء إن ضُبط. ولكن حين يغيب التفاهم، وحين يتحول الاختلاف إلى شتات، يصبح العدو الأكبر للنهضة ليس عدوًا خارجيًا، بل الفرقة التي تنخر من الداخل.
هل كل المختلفين يُقبلون؟
لا، للأسف.
ففي منتصف الطريق، ستُضطر إلى أن تُفارق. لا كل خلاف يُحتمل.
فمن لم يدرك أن المقصود هو النهضة لا الغلبة، ومن أراد أن يختزل الفكرة في لونه وحده، ومن لم يتعلم التعايش مع الخلاف الجزئي، وراح يختنق من كل اختلاف، فربما لا مكان له في السير الطويل.
نحن لا نُنادي بالميوعة الفكرية، ولا بتمييع المبادئ، بل نُنادي بوعيٍ يُميّز بين الثابت والمتغير، بين ما يُفارق فيه وما يُصبر عليه، وبين ما يجب الحسم فيه وما يمكن أن نتحمله لنبقى سويًا.
وماذا لو قلّ الرفاق؟
لا تخف.
لقد بدأها الأنبياء وحدهم. ومشى على الدرب المفكرون وحدهم.
وكثير من الذين ساروا معهم في البداية لم يُكملوا الطريق.
هذا الطريق لا يقيس نفسه بعدد السائرين فيه، بل بثبات من فيه، وصدق بوصلتهم.
إذا خفت أن تبقى وحدك، فاقرأ قوله تعالى:
"إن الله معنا"
فهذه تكفيك.
Comments
Post a Comment