نهضة بلا إذن (23): هدم الأصنام: حين يغيب الفكر ويُعبد الجهل

 

سلسلة نهضة بلا إذن

ليست الأصنام حجارة تُعبد فحسب، بل أفكار تُقدّس، ورموز تُتّبع بلا نظر، وأسماء تُكرّر بلا فهم. فحين يغيب الفكر يكثر الصنم، وحين تفرّ العقول من وهج الحقيقة تلجأ إلى ظل الأصنام، تزيّنها وتنقشها بالكلمات البراقة وتُسجّل حولها القصائد والخطب، لكنها في النهاية تبقى حجارة في طريق النهضة.

لقد سمّى الله العصر الذي سبق الرسالة بـ"الجاهلية"، رغم ما فيه من فصاحة وشعر ومعلقات، لأنه كان زهوًا خاليًا من الفكر، مزخرفًا خاليًا من الوعي، وكانت الثقافة آنذاك أشبه بمرآة تُبهر، لا بمحرّك يُحرّك.


فالجاهلية عند الإسلام ليست فقط عبادة أصنام حجرية، بل هي كل حالة يغيب فيها العقل، ويُهمّش فيها الوعي، وتُقدّس فيها المظاهر، ويُقصى فيها سؤال المعنى. ولذلك فإن أول ما نزل في الوحي لم يكن أمرًا بالعبادة أو الأخلاق، بل "اقرأ"، لأن الفكر هو بداية التوحيد الحقيقي، ولأن أعظم المعارك تبدأ داخل العقل.

لقد أدرك الطغاة قديمًا وحديثًا هذه الحقيقة جيدًا، فكانت أولى خطواتهم دومًا هي تسطيح العقول، وصناعة أصنام بشرية وفكرية وإعلامية، تُبجَّل، وتُصان من النقد، وتُقدَّم كبديل عن التفكير. وهذا ما يفسر كيف تتحول الشعوب مع الزمن إلى كائنات تستهلك أوهامها، وتقاتل دفاعًا عن أصنامها، وتخشى التفكير كما يخشى العابد غضب معبوده.


والنهضة ليست ممكنة إلا إذا بدأنا بهدم هذه الأصنام، واحدًا تلو الآخر، سواء كانت أسماء فكرية، أو مفاهيم جامدة، أو رموزًا لا تقبل النقاش. فالعقل الذي لا يعرف الشك لا يعرف اليقين، والفكر الذي لا يختبر نفسه لا يَسْتَحِقُّ البقاء.


الجانب العملي: كيف نهدم أصنام الفكر؟

  1. إحياء ثقافة السؤال: بدلًا من تلقين الإجابات الجاهزة، يجب أن نُربّي في أنفسنا وأبنائنا عادة التساؤل. أن نسأل "لماذا؟" و"كيف؟" حتى في أكثر الأمور التي نظنها بديهية.
  2. التمييز بين التقدير والتقديس: نقد المفكر أو التراث لا يعني إهانته. يجب أن نتعلم كيف نُقدّر دون أن نقدّس، ونخالف دون أن نُهين.
  3. تفكيك السرديات الكبرى: كل مجتمع يحمل في داخله سرديات موروثة تُكرّر كأنها مطلقات. مهمتنا أن نُعيد قراءتها، أن نبحث عن ظروفها، وسياقها، ومدى اتصالها بعصرنا.
  4. إعادة الاعتبار للعلم والعلماء الحقيقيين: وليس أولئك الذين صعدوا بالشهرة أو بالسلطة، بل من تركوا بصمتهم في الفكر والتاريخ بصدقهم وإنتاجهم.


في الختام،
إن تحطيم الأصنام الفكرية ليس ترفًا ولا تعديًا على التراث، بل هو واجب المرحلة. فكما هدم النبي صلى الله عليه وسلم أصنام الكعبة لتُفتح مكة للحق، نحن بحاجة إلى هدم أصنام العقول لتُفتح قلوب الأمة للنهضة.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام