نهضة بلا إذن (27): حين تُعبد العقلانية
في لحظة انبهار
بالحضارة الغربية، علق كثيرون في فخّ براق: "العقلانية".
كلمة ساحرة في
ظاهرها، تُوحي بالحكمة والرشد والنظام، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى صنم جديد،
يُقدَّس ويُستعبد ويُقدَّم له الدين والأخلاق والروح قربانًا، في طقوس
"حداثية" عصرية، لا تختلف في جوهرها عن عبادة الأوثان الأولى!
ما العقلانية أصلًا؟ وكيف صارت إلهًا؟
العقلانية هي مذهب فكري وفلسفي يُعلي من شأن العقل باعتباره المصدر الرئيس للمعرفة، وهي بهذا المعنى كانت ردّ فعل على حقب الظلام الكنسي في أوروبا، حين احتُكر العقل باسم اللاهوت، فثار الناس وأقاموا تمثالًا للعقل مكان الصليب.
لكن تلك الثورة
سرعان ما انفلتت من حدودها، وتحولت من مشروع تحرر إلى مشروع إقصاء واستعباد.
لم تكتفِ بقول
"لنحتكم إلى العقل"، بل قالت: "ولا شيء يُحتكم إليه سواه"،
فتمّ إسقاط الغيب، والروح، والوحي، والنبوة، والماورائيات… لأنها لا تمر من بوابة
العقل التجريبي ولا تُقاس بمسطرة المختبرات.
صار العقل في هذا السياق هو الإله الجديد، لا يُسأل عما يفعل، وكل ما لا يُفهم يُنفى، وما لا يُقاس يُكذَّب، وما لا يُجرب يُحرق!
كيف انتقلت إلينا صنمية العقلانية؟
لمّا دخل
الاستعمار العسكري بلاد المسلمين، كان يتقدمه الاستعمار الفكري، حاملاً معه منظومة
القيم الغربية ومن بينها هذه العقلانية المتطرفة.
ومع فشل
الاستعمار في اقتلاع الدين من قلوب الناس، لجأ إلى زرع "العقلانية" في
النخب، ليصير الدين في نظرهم عائقًا، والوحي ساذجًا، والغيب خرافة، والنبوة حكاية
رمزية لا تصلح لهذا العصر "العاقل".
فصار بعض "مثقفينا" يستهزئون بالحديث عن الجن والملائكة، ويصفون السنّة بالخرافة، والتاريخ الإسلامي بالأسطورة، ويسخرون من أي شيء لا يمر عبر مجهرهم "العقلي" المحدود.
من المسؤول عن صناعة هذا الصنم؟
جزء من المسؤولية يقع على المدارس الغربية المادية التي صدّرت هذا المفهوم المغلوط، وجزء آخر تتحمّله نخبنا المنبهرة التي قرأت التنوير الأوروبي وكأنه قرآن مُنزّل.
لكن المسؤول الأكبر هم الذين جفّفوا منابع الروح في خطابنا الإسلامي، ولم يقدّموا للعقل ما يستحقه من احترام، ولا للروح ما تستحقه من غذاء، فتركوها فريسة سهلة في أحضان العقلانية المادية.
كيف نكسر هذا الصنم؟
أولًا: بإعادة الاعتبار للوحي كمنبع للمعرفة،
لا يتناقض مع العقل بل يسمو به. فالعقل في الإسلام ليس حاكمًا على الغيب، بل دليلاً على الحاجة إليه.
ثانيًا: بتحرير مفهوم "العقل" نفسه من الاختزال الغربي،
فالعقل ليس فقط آلة حسابية أو منطقية، بل هو قدرة على التأمل والربط والتجاوز… عقلٌ يتفكر في الكون ولا يسجن نفسه فيه.
ثالثًا: بمواجهة الطغيان الأكاديمي
الذي يرفض كل ما لا يُقاس، وتقديم مشاريع فكرية متكاملة تمزج بين العقل والروح والنقل والواقع، بعيدًا عن الانبهار الأعمى أو التبعية الصمّاء.
رابعًا: بإحياء تجارب أعلامنا
الذين جمعوا بين العقل والإيمان: كالشافعي، والغزالي، وابن رشد، وابن خلدون، ممن كانت عقولهم نيّرة وقلوبهم عامرة، لا يُعادون العلم، لكنهم لا يعبدونه.
كفانا سجودًا لعقلٍ بلا روح، وعلمٍ بلا ضمير، وفكرٍ بلا هُدى… إن العقل حين يتحوّل إلى إله، لا يُحرّر بل يُستعبد، ولا يُضيء الطريق بل يحجبه… فلا عقل أصفى من عقلٍ يسجد لخالقه ويهتدي بنوره.
Comments
Post a Comment