نهضة بلا إذن (28): حين تصير "الوطنية" وثنًا

 

سلسلة نهضة بلا إذن

ما بين حدودٍ رسمها المحتل، وعَلمٍ وَرقيٍّ لم نرسمه نحن، ونشيدٍ كتبه موظف في حكومة تابعة، تم اختزال الوطن… ثم رُفعت الوطنية إلى مقام الإله، يُجاهد الناس باسمها، ويُكفَّر من يخالفها، ويُضحّى بالدين لأجل قدسيتها.

لم تعد الوطنية حبًّا للأرض، بل صنمًا للأرض
لم تعد تضحيةً صادقةً لبناء مجتمع صالح، بل سكينًا حادًا في يد السياسيين لتفريق المسلمين، وتمزيق جسد الأمة قطعة قطعة.


أصل المفهوم وتاريخ تحوله إلى صنم

في الأصل، الوطنية هي شعور طبيعي، فطري، يحمل في جوهره معنى الانتماء والوفاء. الإسلام لم يعادِ هذا الشعور، بل باركه حين يكون وسيلةً للخير، لا صنمًا يُعبد.

لكن بداية التحول الجذري جاءت مع القرن التاسع عشر، حين فشل المشروع الاستعماري في اقتلاع الدين، فانتقل إلى استراتيجية التجزئة الشعورية عبر تحفيز الهويات الإقليمية.

عندها صرنا نسمع:

  • أنا مصري سليل الفراعنة.
  • أنا جزائري قبل كل شيء.
  • حدود وطني مقدسة، ومن عبرها عدوّ ولو كان مسلمًا.

تحولت الأوطان إلى سجون كبيرة مغلقة على ساكنيها، لا يسمح لهم أن يشعروا بآلام إخوتهم خارج السياج، بل صار يُنظر للمسلم الغريب كأنه متطفل أو منافس، لا كأخٍ في الدين والرسالة.


من غرس هذا الصنم؟

إنها منظومة سايكس بيكو التي قسّمت الأمة، وأعادت تعريف مفهوم الوطن ليخدم الاستعمار:

  • فالوطن لم يعد رسالة، بل خريطة.
  • ولم يعد العدو هو الباطل، بل من عبر حدودك ولو لاستنصار.
  • ولم يعد الغريب هو المستعمر، بل الأخ في الدين القادم من قُطر آخر.


ثم جاء التعليم والإعلام في ظل الأنظمة الوطنية التابعة، ليكرّس هذا الصنم في نفوس الناشئة:

  • تمجيد الدولة ولو كانت فاسدة.
  • تبجيل الزعيم ولو كان ظالمًا.
  • تعظيم الحدود ولو مزّقت الأمة.
  • تحقير الوحدة ولو أمر بها الدين.


كيف نكسر هذا الصنم؟

  1. تحرير المفهوم: الوطنية ليست نقيضًا للأمة، بل جزء من الأمة. ومن أحب وطنه حقًا، لا يرضى له أن يبقى مقطوعًا عن جسده الكبير. لا بد أن نعيد ضبط المفهوم: نحب أوطاننا، نعم… لكن لا نقدّسها فوق الرسالة.

  2. استدعاء المفهوم الإسلامي للأمة: ﴿إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةًۭ وَٰحِدَةً﴾
    الأمة هي هويتنا، ورسالتنا، وقِبلتنا، ومصيرنا. لا وطن بدون أمة. ولا قيمة لوطن بلا دين.
    الإسلام لم يصنع من مكة وطنًا، بل نقطة انطلاق لرسالة عالمية.

  3. كشف التاريخ المزيّف: لننهض، يجب أن نعلم كيف تم زرع هذه الأوثان. كيف خدعونا بنشيد، وعلم، وحدود، وجنسية… حتى صرنا نفرح بتقسيم أنفسنا ونحقد على من يشبهنا.

  4. بناء الانتماء الرسالي: لا نطلب إلغاء الوطنية، بل نطلب تصحيحها:
    • أن تكون وسيلةً لا غاية.
    • أن تكون جزءًا من مشروع الأمة، لا قيدًا لها.
    • أن تكون تضحيةً لأجل الحق، لا طاعةً عمياء للباطل.

كفانا تمزيقًا… كفانا عبادةً لرايات صُمٍّ لا تنطق
إن الأمة التي يعلو فيها عَلم على الشريعة، وحدود على الوحدة، ووثن على الرسالة… لن تنهض أبدًا.
فلنحطم صنم الوطنية الزائفة، ولنبنِ وطنًا يرفع راية لا إله إلا الله.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام