نهضة بلا إذن (29): صنم الحياد: حين يتحوّل الصمت إلى خيانة
ظلّوا يقولون:
"كن محايدًا، لا تنحز لأحد!"
فصنعوا من الحيادِ صنمًا من ذهب، أقاموا له الأعذار، ونقشوا على جبينه "المنطق"، ثم جعلوه تعويذة النجاة في زمن الطوفان.
ولكن، من قال
إن الصمت فضيلة حين تصرخ الحقيقة؟
ومن أوهمنا أن
الحياد موقف حين تتفحّم الجثث في غزة، وتُجتثّ أشجار فلسطين من جذورها، وتُدهس أمم
بأقدام الطغيان؟
الحياد... الفكرة حين تغدو أداة للهروب
الحيادُ مفهومٌ نشأ في سياقات سياسية وعسكرية لتجنّب الحروب والصراعات بين الدول، وكانت له ضروراته في بعض الأحوال.
لكنّ تحويله إلى موقف إنساني شامل، لا يعترف بميزان الظالم والمظلوم، ولا يفرّق بين الجلّاد والضحية، إنما هو انسلاخٌ من كل شرف، وهروبٌ مغلفٌ بالمنطق.
لقد غُلّف الحياد في عصرنا بقشرة العقلانية، وامتُدح على أنه دليل على "التحضّر"، بينما هو -في جوهره- عذرٌ للخوف أو الكسل أو حبّ السلامة.
حين صار الحياد شريكًا في الجريمة
في الحرب على غزّة، رأينا بأعيننا كيف أنّ الحياد تحوّل إلى خيانة:
- صمتٌ عن المجازر.
- مساواةٌ بين الضحية والجلاد.
- خطابٌ يساوي بين "العنف من الطرفين"، كأنما الطرفان متكافئان في السلاح والمظلومية!
هذا الحياد هو خنجرٌ مغروس في ظهر العدالة.
هو مَلك الموت الذي يقبض على أرواح القيم من خلف الستار.
جذور صنم الحياد
ظهر هذا الصنم
وتضخم مع صعود الخطاب الليبرالي العالمي، الذي يقدّس الحريات الفردية ويمنح الحق
لكلّ رأي بأن "يُسمع"، حتى ولو كان يدافع عن الباطل.
لكن ما نُسي هو
أن الحياد في القضايا الأخلاقية ليس فضيلة، بل جريمة.
تحطيم هذا الصنم
- فكريًا: يجب تفكيك الفكرة داخل العقول، ونزع هالتها القدسية. فليس كل ما يلبس ثوب المنطق يُعد حكيمًا.
- مجتمعيًا: علينا تربية الأجيال على أن الانحياز للحق ليس تعصّبًا، بل هو عدالة. وعلى أن الخوف لا يُجمَّل باسم "الحياد".
- عمليًا: لا بدّ من تدريب الناس على التعبير عن مواقفهم، وعلى تحمل تبعاتها، من خلال الحملات التوعوية، والأنشطة الثقافية، والتعليم النقدي.
لا تكن محايدًا
حين تكون الكلمة طلقة،
ولا تكن صامتًا
حين يكون الصوت نجدة،
ولا تكن
متفرجًا بينما يُسفك الحق في الساحات.
فالصنم لا
يُكسر إلا حين تُعلنها:
أنا منحازٌ للحق، حتى وإن وقفت وحدي.
Comments
Post a Comment