نهضة بلا إذن (30): هل يبدأ التغيير من القاعدة؟ قصة النصف الأول من الحكاية

 

سلسلة نهضة بلا إذن

في عالم يموج بالظلم والاستبداد، ومع تصاعد الأسئلة الحائرة عن مصير الأمة ومكانتها بين الأمم، يبرز السؤال الجوهري الذي حيّر المصلحين منذ قرون: من أين يبدأ التغيير؟ من القمة أم من القاعدة؟

هذا المقال هو النصف الأول من القصة، وفيه نتناول الرأي القائل بأن التغيير الحقيقي، الجذري، المستدام، لا بد أن ينبع من الناس أنفسهم، من قلوبهم وعقولهم وسلوكهم اليومي.


المذهب الشعبي: التغيير من القاعدة

يرى أنصار هذا الرأي أن الإصلاح يبدأ من الداخل، من توبة الناس، وعودتهم إلى ربهم، ورفع مستواهم الأخلاقي والفكري. وأن الطغاة، مهما بلغت قوتهم، ما هم إلا انعكاس لأمراض المجتمع نفسه. هذا المنهج يستند إلى نصوص قرآنية ونبوية واضحة:

  • "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الرعد: 11
  • "وكذلك نُولّي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون" الأنعام: 129
  • وكلام بعض السلف" :كما تكونون يُولَّى عليكم "

بحسب هذا التصور، فإن الحاكم ليس كائنًا نازلًا من السماء، بل نتاج تفاعلات اجتماعية، وصورة مكبرة للناس الذين يحكمهم. فإذا كان المجتمع صالحًا، واثقًا من هويته، نزيهًا في تعاملاته، رافضًا للظلم، فإن من يحكمه لا بد أن يعكس هذه القيم، ولو رغماً عنه.


الطاغية: مخلوق الجماهير

المفكر الجزائري مالك بن نبي تناول هذا المعنى بعمق، فقال إن القابلية للاستعمار هي ما سمح للاستعمار بأن ينجح، لا العكس. فالفراغ الداخلي في الضمير والوعي هو ما مكّن القوى الخارجية والداخلية من السيطرة. وفي ضوء هذا، فإنّ الطغاة لا يحكموننا بقوتهم فحسب، بل بضعفنا أيضًا. بضعف إرادتنا، بكسلنا عن طلب الحق، بخوفنا من التغيير.

يُشَبِّه بعضهم الطاغية بالماء في الوعاء

لا يتشكل وحده، بل يأخذ شكل المجتمع الذي يُسكب فيه. فإن كان الوعاء مكسورًا، هشًا، قذرًا، فالماء لا يمكن أن يبقى نقيًّا فيه.


تاريخيًا: تجارب سابقة

التاريخ الإسلامي نفسه يزخر بنماذج لتغييرات اجتماعية سبقت أو صاحبت التغيير السياسي. فالبيئة التي نشأ فيها الصحابة في دار الأرقم كانت بيئة تغيير فكري وروحي حقيقي، سبقت ظهور الدولة في المدينة.فلم تكن هذه مجرد تحركات سياسية، بل كانت ثمرة إعداد عقدي وفكري استمر سنوات.

أما في فترات الانحطاط، فقد رأينا كيف أنّ الدول الإسلامية سقطت من الداخل أولاً، ثم اجتاحتها القوى الخارجية. كانت القلوب قد مرضت، والعقول قد تبلدت، والقِيم قد هبطت، فجاء العدو فوجد الأبواب مفتوحة.


العمق الفلسفي

في جوهر هذا الرأي تكمن فكرة أنّ التغيير لا يمكن أن يُفرض من أعلى، لأنه سيكون وقتها هشًا، زائفًا، مُسطّحًا، غير نابع من قناعة داخلية. بينما التغيير القاعدي يُشبه النبتة التي تنمو من الجذور، ببطء وثبات، لكنها أقوى جذورًا وأعمق أثرًا.

يُقال إنّ البناء على الرمال لا يصمد أمام الرياح، وكذلك الحال إن حاولنا تغيير الحاكم دون تغيير المحكوم.


المشكلات والاعتراضات

ومع أنّ هذا الطرح وجيه في الكثير من نواحيه، إلا أنّ ثمة اعتراضات جوهرية تطرح نفسها:

  • هل الناس يُغيّرون أنفسهم تلقائيًا؟ أم أنّ السلطة تؤثر فيهم أكثر مما يتأثرون هم بها؟
  • هل الانتظار حتى يتغيّر كل فرد في المجتمع واقعي؟ أم أنّنا نظل نحلم بمجتمع مثالي لن يأتي؟
  • هل سيُترك المصلحون في سلام وهم يدعون الناس ويغيّرونهم؟ أم ستحاربهم الأنظمة كما يحدث دومًا؟


سؤال المقال

إذن… هل هذا هو الحل فعلاً؟ أن نغيّر أنفسنا فنغيّر الواقع؟

هل التغيير يبدأ فعلًا من القاعدة؟ وهل يكفي وحده؟

نحن هنا لا نقدم إجابة حاسمة، بل نفتح باب النقاش، ونطلب منكم مشاركتنا الرأي والتجربة، قبل أن نقدم النصف الثاني من القصة.


 انتظرونا في المقال التالي: هل نغيّر القمة لتتغيّر القاعدة؟

حيث نعرض الرأي الثاني… وسنكتشف إن كانت الحقيقة في أحد الطرفين، أم في نقطة التقاء بينهما.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام