نهضة بلا إذن (31): أم نغيّر القمة؟ النصف الثاني من قصة التغيير

 

سلسلة نهضة بلا إذن

في المقال السابق، فتحنا باب النقاش حول أحد أعمق الأسئلة في فكر النهضة والإصلاح:

هل يبدأ التغيير من القاعدة الجماهيرية أم من قمة السلطة؟

قدمنا وجهة النظر التي ترى أن إصلاح الناس هو السبيل الحقيقي لتغيير الواقع، والآن ننتقل إلى النصف الثاني من القصة: هل التغيير من الأعلى هو الطريق الأمثل؟


المدرسة القيادية: الناس على دين ملوكهم

يرى أنصار هذا الرأي أنّ المجتمعات تتشكل وتُوجّه بشكل كبير بفعل السلطة. فالحاكم، والنظام الذي يصنعه، والقوانين التي يسنُّها، كل هذا يصوغ شكل الحياة العامة، ويرسم حدود المسموح والممنوع.

وبالتالي، إذا أردت تغيير المجتمع، فابدأ بتغيير من يحكمه.


مرتكزات هذا الرأي

  1. "الناس على دين ملوكهم": مقولة شهيرة تُعبّر عن مدى تأثر الناس بسياسات وسلوك حكامهم، فالراعي هو من يضبط مسار الرعية، والناس في غالبيتهم يتّبعون القوي والمسيطر، لا عن قناعة دائمًا، بل عن مصالح وخوف وألفة.
  2. "إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا") النصر: 1–2(
    هذه الآية تُستخدم من قِبل هذا التيار للدلالة على أنّ النصر السياسي سبق الانتشار الواسع للدين، أي أنّ الفتوحات (فتح مكة) وتغير موازين القوة (غزوة الخندق وبعدها صلح الحديبية) كانت مفتاحًا لتغير الجماهير، لا العكس.
  3. تجارب التاريخ تشير إلى أنّ الناس لا ينهضون غالبًا من تلقاء أنفسهم، بل يُقادون، ويُدفعون نحو النهوض دفعًا، إما برؤية عادلة حازمة، أو بسلطة قوية مصلحة.

مبررات هذا الرأي

  • الواقع أكثر تعقيدًا مما نظن. الدولة الحديثة بسطت سيطرتها على كل مفاصل الحياة: الهوية، الاقتصاد، التعليم، الإعلام، القضاء، حتى القيم.
    فلا يمكن إحداث تغيير حقيقي دون التأثير في هذه البنية المركزية.
  • الناس لا يتحركون بالحق وحده. لو أنّ معرفة الحق تكفي للاتباع، لآمن الناس جميعًا بالأنبياء، لكنّ الحقيقة أنّ الشهوات والعادات والمصالح أقوى من أن تُغيّر بالموعظة وحدها.
  • الطغاة لا يتركون المجال العام فارغًا .بل يسارعون بسحق كل محاولات الإصلاح المجتمعي، ويحاربون الدعاة والمربّين، ويشوّهون أي حركة تغيير سلمي، مما يجعل التغيير من القاعدة مسارًا مليئًا بالعقبات.
  • كل إصلاح قاعدي يحتاج مظلة سياسية تحميه. فالمدارس، الإعلام، المساجد، الجمعيات، من يضمن حريتها؟ إذا لم تكن هناك سلطة تحمي الإصلاح، فمن السهل خنقه في مهده.

الواقع يؤكد الفكرة

في مجتمعات عديدة، رأينا أنّ الناس يستجيبون بسرعة عندما تأتيهم أنظمة عادلة، واضحة، تُطبّق القانون وتحارب الفساد.

بل إنّ نفس الشعب الذي يُتهم بالفساد والخضوع يمكنه أن يتغير سريعًا حين يشعر بأنّ الدولة تحترمه، وتطبق العدالة، وتحاسب الكبير والصغير.

ومن الأمثلة القوية:

  • عمر بن عبد العزيز، الذي أحدث تغييرًا هائلًا في المجتمع خلال فترة حكم قصيرة، دون أن ينتظر أن يتغير الناس أولًا.
  • وفي العصر الحديث، هناك تجارب لدول إسلامية سعت لإحداث إصلاح سياسي حقيقي، فوجدت استجابة واسعة من الناس، لأنّ الناس أصلاً يبحثون عن قيادة تُخرجهم من التيه.

لكن… ما المشكلة؟

مع وجاهة هذا الطرح، إلا أنّه ليس خاليًا من العيوب:

  1. تغييب الناس: يجعلهم مجرد تابعين، لا شركاء في التغيير، مما يُنتج مجتمعات خانعة، تنتظر المُنقذ، لا تصنعه.
  2. السلطة مُفسِدةٌ بطبيعتها إن لم تُراقَب .والمصلح الذي يصل إلى القمة دون قاعدة وعي شعبية تحميه، سرعان ما يُعزل أو يُشوَّه أو يتحول إلى نسخة أخرى ممن سبقوه.
  3. تعقيد الدولة الحديثة: فحتى لو وصلت إلى الحكم، فهناك شبكة هائلة من المؤسسات العميقة (الدولة العميقة) التي تقاوم أي تغيير.
    التجربة أثبتت أنّ إسقاط رأس النظام لا يعني تغيير المنظومة، بل قد يؤدي إلى فوضى أو عودة أسوأ.
  4. عدم مراعاة السنن الاجتماعية: فالتغيير الفوقي وحده قد يكون مفاجئًا وصادِمًا للناس، فلا يتقبلونه بسهولة، بل قد يُسقطونه أو ينقلبون عليه.
    رأينا هذا في تجارب كثيرة فشلت بسبب عدم تهيئة الناس نفسيًا وفكريًا وأخلاقيًا.

خلاصة النصف الثاني

إذن نحن أمام معضلة:

  • إن تركت الناس على حالهم آملًا أن يصلحوا أنفسهم، فلن ترى يومًا يأتي فيه من يحكمهم بالعدل.
  • وإن ركزت على القمة وحدها دون إصلاح الناس، فسرعان ما يهدمون ما بُني، أو يرفضونه، أو يُبتلى المصلحون بفشل ذريع.

سؤال المقال:

هل فعلاً يمكن أن نغيّر النظام السياسي وننتظر أن يتغير المجتمع تلقائيًا؟
أم أن التغيير من القمة يحتاج أرضًا شعبية تمهّد له؟
وهل هناك تجارب نجحت في هذا الطريق؟ وإن نجحت، فكيف؟ ولماذا؟


انتظرونا في المقال الثالث:

بين القمة والقاعدة… أين الطريق؟

فيه سنعرض تحليلاً مركّبًا للواقع، وننظر إلى التجارب الناجحة في العالم الإسلامي، ونطرح مشروعًا متوازنًا يدمج بين الراعي والرعية.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام