نهضة بلا إذن (32): بين القمة والقاعدة… أين الطريق؟

 

سلسلة نهضة بلا إذن

لقد سمعنا النصفين. كل فريق يلوّح بأدلته، ويدافع عن رؤيته في التغيير: 

القاعدة أو القمة، الناس أم السلطان، الإصلاح الأخلاقي أم الثورة السياسية

لكنّ الواقع لم يُحسم بعد، بل يتخبط في دورات من الأمل والانكسار، والنهضات المجهضة، والتجارب المنكوبة.

فهل حقًا علينا أن نختار أحد المسارين؟

أم أنَّ الحقيقة – كعادة الحق – أعمق من أن تُحصر في ثنائية؟


في الميزان: تحليل الفريقين

لنتجاوز العبارات العامة ونُفكك القضيتين:

  • الإصلاح من القاعدة يمنحنا مشروعًا طويل الأمد، يُخرج أجيالًا واعية، ولكنه يفتقر للحماية السياسية، ويُبطئ السير بسبب القمع أو التحديات البنيوية للدولة الحديثة.
  • الإصلاح من القمة قد يُحدث تغييرات سريعة، ويملك أدوات السلطة، لكنّه هشٌّ إن لم يُدعَّم بشعب واعٍ، وقد يُجهض بسهولة كما رأينا في ثورات متعاقبة.

فالخلاصة؟
كل طريق يسير منفردًا محكوم عليه بالعجز أو بالهزيمة.


من هنا تبدأ الرؤية: التكامل لا التضاد

أول خطوة نحو مشروع نهضة حقيقي: أن نكسر وَهمَ "إما/أو".

لا نحن مطالبون بالركون إلى "الانتظار التربوي" في كهفٍ فكري حتى يصلح الناس جميعًا،
ولا من العقل أن نقفز إلى السلطة دون قاعدة جماهيرية حقيقية تحمي وتحاسب وتفهم.

الحل في مشروع تزامني، شبكي، تراكمي. مشروع يعرف:

"إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"

لكن هذا التغيير لا يمنع المبادرة، والقيادة، وصناعة البدائل، وبناء المؤسسات.


ولكن… كيف؟ ما الذي يمكن فعله عمليًا؟

إليك الخطوات الخمسة التي يمكن أن تُؤسس لمشروع متوازن وعميق وقابل للتطبيق:


1.  بناء الوعي الجماعي الموازي

لسنا بحاجة إلى إصلاح كل الشعب. بل نحتاج إلى كتلة حرجة واعية، تحمل مشروعًا فكريًا وأخلاقيًا، وتعرف الواقع الذي تعيش فيه، وتؤمن بوجوب تغييره.

  • هذه الكتلة لا تُبنى بالعاطفة وحدها، بل بالمعرفة: دراسة الفكر، التاريخ، السنن، الهياكل السلطوية، مفاهيم القوة.
  • لها حضور ثقافي وإعلامي حقيقي، تتجاوز وسائل الخطاب التقليدية، وتنافس في مجالات التأثير الحديثة.
  • تتعلّم التنظيم والعمل الجماعي وتكوين الشبكات والتعاون العابر للتيارات.

النجاح في هذه المرحلة يعني أن لدينا جمهورًا جاهزًا للضغط، الحماية، والمحاسبة لأي قيادة مخلصة لاحقًا.


2.  تكوين نخبة إصلاحية متينة

لا يُعقل أن نُغيّر بدون كفاءات.

  • علينا الاستثمار في إعداد نخبة شابة تفهم الدين والسياسة والتاريخ والاجتماع، وتملك مهارات القيادة والإدارة والتواصل.
  • هذه النخبة لا يجب أن تكون معزولة عن الناس، بل تتصل بالقاعدة، وتسمع، وتخدم، وتُظهر نموذجًا مختلفًا عن نخب الفساد أو النخب الانعزالية.

هذه النخبة ستكون نواة للبدائل: في الاقتصاد، التعليم، الإعلام، وحتى الحكم.


3.  بناء مؤسسات موازية حيثما أمكن

  • في الأنظمة القمعية: تُبنى مؤسسات داخلية صلبة في بيئات مرنة (جمعيات، منصات، دوائر تعليم، منصات فكرية).
  • في الأنظمة المنفتحة: تُبنى مؤسسات إصلاحية تخترق المساحات الرسمية، وتشكل بديلاً تدريجيًا عن الأنظمة المهترئة.

المؤسسات تُعمّق الوعي، وتمنح الحركات الاستمرارية، وتفتح مسارات للتأثير بعيدًا عن مركز الصراع.


4.  الضغط الذكي وتغيير قواعد اللعبة

  • بدلًا من انتظار "الفرصة الذهبية" للوصول إلى الحكم، نحتاج إلى صناعة مساحات للتأثير التدريجي.
  • هذا يشمل:
    • المشاركة السياسية الواعية (في بيئات ممكنة).
    • التأثير في السياسات العامة عبر تحالفات مدنية.
    • كشف الظلم وفضح الفساد بمنهجية.

كلما زادت الكتلة الواعية، واشتدت المؤسسية، وارتفعت الأصوات المنظمة، زاد الضغط على النظام للتحول… أو التغيير.


5.  استثمار اللحظات الفارقة (النافذة الثورية)

  • التاريخ يُهدينا نوافذ نادرة. لحظات تتغير فيها موازين القوى (ثورات، انهيارات، انتقالات).
  • المشكلة أن أغلب هذه اللحظات ضاعت، لأن من تصدّر لم يكن يحمل مشروعًا حقيقيًا، أو لم يملك أدوات التنظيم، أو واجه شعبًا غير مهيأ.

المشروع النهضوي الحقيقي يعمل اليوم لأجل هذه اللحظة، حتى إذا جاءت، لم نكن بحاجة للارتجال.


دروس من تجارب واقعية

  • ماليزيا: لم تنهض فقط بالحكم الرشيد، بل بنخب متعلمة ومؤسسات قوية ووعي متين بالهوية.
  • تركيا: لم تصعد "العدالة والتنمية" مباشرة، بل بُنيت قاعدة اجتماعية دينية – ثقافية – تعليمية استمرت لعقود، ثم استثمرت لحظتها.
  • النهضة في تونس وإن تعثرت، إلا أن ما حافظ عليها هو الجماهير الواعية والامتداد الشعبي العميق.
  • الثورات العربية سقطت لأنها افتقرت إما للوعي الشعبي، أو للمشروع القيادي، أو للاستعداد المؤسسي.

خاتمة: من يُشعل الفتيل؟

لسنا في حاجة إلى من يصرخ "ابدأوا من الشعب" أو من يهتف "اقلبوا الحكم".

نحن بحاجة إلى من يفكك العقل الاستعماري داخلنا،
يبني الإنسان والفكرة،
يُحسن قراءة لحظات التغيير،
ولا يخاف من التقدم في طريق وعر… لأنه يعرف وجهته.


خلاصة المشروع النهضوي:

ابدأ من القاعدةولا تنتظرها.
استعد للقمةولا تلهث خلفها.
ابنِ الإنسانوابنِ المؤسسة.
لا تيأس من الناسولا تنخدع بالسلطة.
كن عارفًا بالواقعلا عبدًا له.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام