نهضة بلا إذن (33): صنم التغيير المُرخص به فقط

 

سلسلة نهضة بلا إذن

حين يتحوّل الإذن من وسيلة إلى وثن

في عالم خاضع لسطوة الأنظمة، وتحت ظلال الحدود، وداخل أطر المؤسسات، نشأ صنم جديد يُعبد من دون الله… صنم لا يُبصره كثيرون لأنهم يتنفسونه كما يتنفسون هواء المدينة الملوّث، لكنه حاضر في سلوكهم، في قراراتهم، في ترددهم، في خططهم التي لا تبدأ إلا حين يقول الحاكم: "اسمحوا لهم".

ذلك هو "صنم التغيير المُرخص به فقط".


لقد أُقنعنا، أو أقنعنا أنفسنا، أنّ أيّ محاولة للتغيير يجب أن تمر عبر القنوات الرسمية، المرخصة، المراقبة، المقننة. وأنه لا شرعية لأي عمل ما لم يُوقع عليه موظف في مصلحة حكومية، أو يحمل ختم الدولة، أو يُباركه رجل سلطة.

وهكذا ماتت فينا الجرأة، وذبلت المبادرات، وتحوّلت النوايا الطيبة إلى مشاريع مُؤجَّلة تنتظر الإذن الذي لن يأتي… أو سيأتي فقط حين يُصبح التغيير عديم الجدوى!


فلسفة الإذن: من الطاعة إلى التقديس

لا أحد يُنكر أنّ وجود أنظمة تنظيمية في حياة الناس أمر لا بد منه. فالحياة بلا قوانين فوضى، والعمل الجماعي بلا تنسيق عبث. لكن المشكلة لا تكمن هنا… بل تكمن حين يتحوّل الإذن من وسيلة لضبط الحركة إلى شرط لوجودها.

حين يُصبح طلب الإذن هو المبدأ، لا الاستثناء.

حين يُصوَّر للناس أنّ انتظار القرار من فوقهم، أو انتظار السماح من "جهة مختصة"، هو الدين، أو الوطنية، أو الحكمة، أو المصلحة.

وهنا يكمن الصنم: فكرة أنّ التغيير لا يكون شرعياً أو مشروعاً أو ناجحاً إلا إذا أذنت به السلطة!

هذا التصوّر يقتل في الناس أعزّ ما فيهم: روح المبادرة. ويُحوّل عموم الأمة إلى مجرد أدوات تنفيذ لما يُقرره "الفاعل السياسي"، لا إلى شركاء في التغيير وعمّاله الحقيقيين.


جذور الصنم: الاستعمار والترويض

ليست هذه الفكرة وليدة اللحظة. بل هي ثمرة مُرّة لقرون من الترويض الاستعماري.

فحين دخل الاستعمار بلاد المسلمين، لم يكتفِ باحتلال الأرض… بل احتل العقول. وعلّم الناس أنّ السلطة هي مصدر الحق، وأنّ القوانين الوضعية فوق كل اعتبار، وأنّ أيّ عمل يتجاوز إطار الدولة أو يخالف تعليماتها، هو تهديد، حتى لو كان دعوة إلى الحق!

وبعد رحيل الجيوش بقي الصنم، بل وازداد ضخامة وسطوة، وارتدى عباءة الدولة الحديثة، وسمّى نفسه: "العمل المؤسساتي"، أو "الانضباط الوطني"، أو "العمل الشرعي".

حتى صرنا نرى بعض أبناء الصحوة الإسلامية، وهم أكثر الناس علماً بظلم الواقع، يُسكتون أصوات المصلحين بحجة أنّه لا يجوز التغيير إلا عبر صناديق الاقتراع، أو عبر الأحزاب المُرَخصة، أو في حدود القانون!

لكن… من قال إنّ الطغاة يُهزمون داخل حدود قوانينهم؟
من قال إنك إن التزمت قوانين الظالم، فسيمنحك طريقاً لإزاحته؟
أليس ذلك سذاجة؟


عندما تصبح الطاعة لصنم!

لقد رسم لنا القرآن مشهداً عجيباً حين قال:

"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قبلك يُريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به".

فانظر كيف شبّه الاحتكام للطاغوت بأنّه إيمان مزعوم، ومخالفة لأمر الله، وخضوع لصنم يجب الكفر به.

فهل نحن اليوم فعلاً نكفر بهذا الصنم؟
أم أننا ندور حوله، وننحر له عزمنا، ونأكل من لحمه باسم الوطنية، وندعو له بالبقاء لأننا نخاف الفوضى؟

إننا – في واقع الأمر – لا نرفض صنم الإذن، بل نُقدّسه، ونخاف من الحديث عنه، ونتهم من يثور عليه بأنه خارجٌ عن الإجماع، أو داعٍ للفوضى.


الوجه العملي: هل يمكن التغيير دون إذن؟

نعم، بل يجب.

لقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج في أفعاله. 

فلم ينتظر إذن قريش ليدعوهم إلى التوحيد. 

ولم يطلب رخصة من دار الندوة ليتحدث عن ظلم الجاهلية. 

ولم يركن إلى السكوت حين أُوذي أصحابه.

بل خرج إلى الطائف، والتقى بالوفود، وبحث عن أنصار لدعوته، ثم أسّس دولة في المدينة دون إذن من أحد.

ولو انتظر الإذن، لما خرج الإسلام من مكة.

وكذلك فعلت الشعوب في كل مكان: التغيير الحقيقي بدأ من خارج الصندوق، خارج الإذن، خارج الرخصة.
ومنظومة "العمل المصرّح به" إنما وُجدت لتكبح المصلحين، لا لتخدمهم.

وهذا لا يعني الدعوة إلى الفوضى، بل إلى استعادة الإنسان لمسؤوليته، والتحرك في ظل ميزان المصلحة والشرع والعقل، دون أن نُحوّل الإذن البشري إلى ربّ يُعبد من دون الله.


خطوات عملية لكسر الصنم:

  1. إعادة تعريف الشرعية: يجب أن نفهم أنّ الشرعية لا تنبع فقط من الدولة، بل من القِيم، ومن المصلحة، ومن مرجعية الشرع.
  2. تربية الأجيال على المبادرة لا الانتظار: تعليم الشباب أن "التصرف السليم" لا يعني دوماً "المسموح به رسمياً".
  3. بناء مؤسسات شعبية موازية: سواء في التعليم، أو الإعلام، أو الإغاثة، بعيداً عن قبضة الترخيص المشروط.
  4. فضح الطغيان التشريعي: كشف كيف تُستخدم القوانين في وأد المبادرات الخيّرة، وتعطيل دعوة الحق، وإبقاء الناس في دوائر العبث.
  5. زرع الثقة في الفعل الجماعي غير المؤسسي: لا نحتاج لإذن لنتعاون، لنتراحم، لنتعلم، لنتواصى بالحق. كل ذلك من صميم الدين ومن جوهر الحضارة.

خاتمة:

كفانا عبادة للأختام...
كفانا تقبيلًا للورق المختوم، وانتظارًا للإيماءة، والتوقيع، والبيان الوزاري.

فالله لم يطلب منا إذنًا حين أمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر.
والنبي لم يُبلّغ الرسالة بعقد شراكة مع النظام الجاهلي.

فإمّا أن نكسر هذا الصنم...
وإما أن نبقى نُراوح في مكاننا، نكتب طلبات الإذن، ونرجو الموافقة، وننتظر...

حتى يأذن الله بتبديلنا.

"وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم."

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام