نهضة بلا إذن (34): صنم المؤسسية: حين تحل الهياكل محل الرسالة
في طريق البحث عن التغيير والخروج من أسر الواقع، يلجأ كثير من المصلحين إلى تأسيس الكيانات والمؤسسات. في ظاهر الأمر، يبدو هذا خيارًا ناضجًا، منطقيًا، بل واجبًا، خصوصًا حين يتعلق الأمر ببناء بدائل موازية للنظام الفاسد الذي ننتقده. غير أن الخطر كل الخطر يكمن حين تتحول هذه الوسائل إلى غايات، وتصبح المؤسسية بحد ذاتها دينًا يُعبد وصنمًا يُطاع، وتُنسى الروح التي لأجلها وُجدت هذه الهياكل.
لقد كانت الدعوات الكبرى في تاريخ الإنسانية تبدأ برسالة، فكرة، روح، ثم تأتي المؤسسة كوسيلة لحفظها ونقلها وتنظيمها، لا لتحلّ محلها. لكن ما نراه اليوم مختلف تمامًا:
تتحول المؤسسة إلى كيان له منطقه الخاص، واهتماماته الخاصة، و"أمنه القومي" الخاص، حتى لو تعارض ذلك مع الرسالة الأولى.
من الدعوة إلى الإدارة
حين بدأت دعوة النبي محمد ﷺ، لم تكن هناك مؤسسة بالمعنى الإداري الحديث. كانت هناك رسالة تتدفق من قلب مؤمن إلى قلب متعطش، وكان الناس يدخلون في دين الله واحدًا بعد الآخر دون بيروقراطية أو لجان تنظيم أو نماذج تسجيل. وحين أُقيمت الدولة، كانت المؤسسات تُبنى على قدر الحاجة، وتخدم الرسالة، لا العكس.
لكن حين سقطت الروح، أصبحنا نرى الدعوة تُدار، لا تُعاش.
نُقيم الندوات، ونرفع الشعارات، ونضع الخطط الخمسية، وننسى السؤال الجوهري:
هل ما نفعله يغير شيئًا في الناس؟ هل يحملهم على التوبة؟ على الإيمان؟ على الصدق؟ على رفض الباطل؟ أم أننا فقط نُدير مؤسسة لا تختلف كثيرًا عن غيرها إلا بالعنوان؟
المؤسسة التي تخاف على نفسها
في كثير من الأحيان، تصبح المؤسسة عائقًا أمام التغيير بدلاً من أن تكون وسيلته. فالخوف من فقدان التراخيص، أو التمويل، أو الواجهة الرسمية، يجعل بعض المؤسسات تهادن الباطل، وتُخفي الحق، وتصمت حين يجب أن تصرخ. وهكذا، تُخدر الرسالة داخل ردهات الإدارة، ويُدفن النبض داخل ملفات الموظفين.
رأينا هذا مرارًا، حين تُمنع المؤسسات الإسلامية من اتخاذ موقف واضح من مذابح غزة، أو من التنديد بالأنظمة القمعية، أو من الجهر بالحقيقة التي تُغضب مموليها أو مرخصيها. في تلك اللحظة، يتحول الصنم إلى كيان حي، يمنع السجود لغيره، ويطلب الطاعة المطلقة... باسم المصلحة!
العمل الموازي لا يعني التأليه
قد يقول قائل: "ألم تدعُنا في مقالاتكم إلى تأسيس مؤسسات بديلة؟ فكيف تهاجمون المؤسسية اليوم؟"
والجواب واضح: نحن دعونا إلى بناء وسائل، لا معابد. دَعَونا إلى أن نحمل الرسالة على أكتاف الهياكل، لا أن نضع الرسالة داخل الملفات، ونحمل الهياكل فوق أكتافنا.
المؤسسة حين تكون في خدمة الفكرة، فهي نعمة. أما حين تُصبح هي الفكرة، وتُدار من أجل بقائها لا من أجل فاعليتها، فإنها تتحول إلى نسخة بيروقراطية من الطغيان. ولهذا، وجب أن نحطم هذا الصنم، لا لنهدم المؤسسات، بل لنُعيد إحياء الرسالة داخلها.
نحن لسنا موظفين في شركة!
نحن ورثة دعوة، ولسنا موظفين في شركة تسعى لتحقيق "مؤشرات أداء" شكلية. الدعوة ليست جدول اجتماعات، ولا خطة ربع سنوية.
الدعوة إيمان مشتعل، وروح تفيض، وكلمة تقال في وجه سلطان جائر.
والمؤسسة إن لم تكن حاضنة لهذا كله، فهي عبء يجب تجاوزه.
إننا بحاجة إلى مؤسسات حية، لا مؤسسات خائفة. مؤسسات تفتح الأبواب ولا تغلقها، تقف مع الحق لا بجانبه، تطارد الظلم لا تُجامله، تحب الموت في سبيل الرسالة أكثر من حبها للحياة في كنف التراخيص والميزانيات.
خلاصة القول
ليس المطلوب أن نهدم كل مؤسسة، بل أن نُعيد توجيهها. أن نزرع فيها الوعي بأن وجودها ليس هدفًا في ذاته، بل وسيلة ضمن معركة أوسع ضد الجهل والظلم والاستعمار والتطبيع.
وإن لم تُحطم هذا الصنم في داخلك، فستجد نفسك بعد عشرين عامًا موظفًا نشيطًا في مؤسسة لا تغير شيئًا... وتظن أنك مجاهد.
أعد البوصلة نحو الرسالة، وأعد الهيكل إلى وظيفته الأصلية: خادمًا للحق، لا سيدًا على المؤمنين.
Comments
Post a Comment