نهضة بلا إذن (35): الحقيقة المائعة: صنم "نسبية الحقيقة" وتهافت الفوضى الفكرية
في زمنٍ كثرت فيه الأصوات، وتعددت فيه المنابر، لم يعد المرءُ يسمع إلا صدى نفسه، ولا يرى إلا مرآة فكره. لقد أصبحت "الحقيقة" نفسها، التي قامت عليها السماوات والأرض، محلًا للنقاش، بل للسخرية أحيانًا، وكأنّ الناس يساومون على ضوء الشمس ويتجادلون حول وجود النهار.
فما عاد للحق حضورٌ واضح، ولا للباطل قبحٌ مجمع عليه. كل شيء قابل للتأويل، وكل فكرة لها "نسختها الخاصة"، وكل طريق يُفضي – زعمًا – إلى "نوع ما" من الحقيقة! بهذا المنطق، تسللت إلينا نظرية خطيرة، تتخفّى في ثياب "الانفتاح"، وتتنكّر بقناع "التسامح"، لكنها في جوهرها سُمٌّ زُعاف، يهدم الدين والعقل والمنهج: "نسبية الحقيقة".
أولًا: ما المقصود بنسبية الحقيقة؟
هي الاعتقاد بأنّ الحقيقة ليست مطلقة ولا واحدة، بل هي متعددة ومتناقضة أحيانًا، تختلف باختلاف الأفراد والثقافات والنظريات. وما تراه أنت "حقًا" قد يراه غيرك "باطلًا" بنفس الدرجة من الصواب، وكلٌّ على صواب!
قد تبدو الفكرة في ظاهرها متسامحة، لكنها في عمقها تقوّض إمكان الوصول إلى أي يقين. تُصبح المعرفة رأيًا، والعقيدة تفضيلًا، والإيمان مزاجًا، والحق مجرّد سردية شخصية.
ثانيًا: الجذور الفلسفية للنسبية
بدأت هذه الفكرة في المهد الغربي، وتحديدًا عند السفسطائيين في اليونان القديمة، الذين أنكروا وجود حقائق ثابتة، وقالوا إنّ الإنسان هو "مقياس كل شيء". لكنّ الغرب المسيحي حينها رفضها لصالح التصور الديني الكاثوليكي، إلى أن جاءت الحداثة وفجّرت العقل من كل قيد، ثم أعقبتها ما بعد الحداثة التي أعلنت – ببجاحة فلسفية – موت الحقيقة، واعتبار كل السرديات الكبرى (الدين، القيم، العقل، الهوية) مجرّد أدوات هيمنة!
وهكذا وُلد عصر "السائل": الحقيقة السائلة، الهوية السائلة، الأخلاق السائلة. لا شيء ثابت، ولا شيء مقدّس، ولا شيء نهائي.
ثالثًا: كيف تسلّلت النسبية إلى فكر المسلمين؟
تسللت النسبية إلى العقل المسلم عبر قنوات التغريب الثقافي، والتعليم النخبوي، والمناهج الاستشراقية التي زعزعت الثقة في المصادر الإسلامية. صارت "القراءات الحداثية" تساوي بين النص القرآني والأسطورة القديمة، وتُخضع الوحي لمنهج النقد الأدبي الغربي، وكأن الله – جل وعلا – مؤلفٌ بشري يحتاج إلى مراجعة لغوية. حاشاه جل وعلا !
ومن جهة أخرى، ساهمت الفوضى الإعلامية ومواقع التواصل في تعميم فكرة أن كل رأي "يستحق الاحترام"، وكل منظور "يُعبّر عن وجهة نظر"، حتى لو ناقض العقيدة أو أساء للثوابت.
رابعًا: الإسلام ونظرة التوحيد للحقيقة
الإسلام لا يُقرّ بهذه الفوضى. بل يبني وجوده كله على الحقيقة المطلقة التي نزل بها الوحي، وبلّغها النبي ﷺ، وأكمل الله بها الدين. يقول الله تعالى:
﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32]
لا توجد منطقة رمادية بين الحق والباطل حين يتعلّق الأمر بالتوحيد، والنبوة، والآخرة، والعدل، والقيم الأساسية.
لكن الإسلام – في ذات الوقت – لا يُلغي الاجتهاد ولا يُجمّد العقول، بل يفتح أبواب البحث والاختلاف في الفروع والوسائل ما دامت منضبطة بالثوابت.
خامسًا: لماذا نسبية الحقيقة صنم فكري يجب تحطيمه؟
لأنها تؤدي إلى:
- هدم العقيدة من أساسها، فكل شيء نسبي، حتى الإيمان بالله!
- شلّ الإرادة، لأنك لن تقاتل الباطل إذا كان "وجهة نظر".
- ضياع المشروع، فكيف ستنهض أمة لا تتفق على وجود حق أصلاً؟
- تفكيك الهوية، فكل ما يُفرَض من الخارج يصبح "مجرد خيار" له وجاهته!
سادسًا: تمهيد للمقال القادم
نسبية الحقيقة ليست مجرّد رأي، إنها عقبة مركزية في طريق النهضة، لأنها تزرع الشك بدل اليقين، والتشتت بدل التوحد، والتراخي بدل الرسالة. وهي ليست مجرد فكرة نختلف حولها، بل صنم جديد علينا تحطيمه، حتى نحرر العقول من الوحل ونرسي أقدامنا على أرض صلبة.
لكن هل كانت النسبية محض فكرة فلسفية، أم أنها وُظفت تاريخيًا كأداة استعمارية ممنهجة لتحطيم عقول الشعوب؟
هذا ما سنكتشفه – بإذن الله – في المقال القادم:
"نسبية الحقيقة: حينما تصبح الفوضى الفكرية أداة استعمار"
Comments
Post a Comment