نهضة بلا إذن (36): نسبية الحقيقة: حينما تصبح الفوضى الفكرية أداة استعمار

 

سلسلة نهضة بلا إذن

ربما يتوه بعض الناس في ظنّ أنّ "نسبية الحقيقة" قضية فلسفية خالصة، لا علاقة لها بالواقع، وأن الجدل حولها محض تنظير نخبة مثقفة لا صلة له بحياة الناس. لكنّ الحقيقة التي نغفلها – أو يُراد لنا أن نغفلها – هي أنّ هذا الصنم المفاهيمي قد أصبح أحد أخطر أدوات الاستعمار المعاصر في تحطيم البنى الذهنية للمجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية على السواء.

فحينما يُقنعوك أنّ "كل شيء نسبي"، فإنهم لا يُفرغون رأسك من الحقائق فحسب، بل يملؤونه – على الفوربما يختارونه هم من بدائل جاهزة.


أولًا: من الاستعمار العسكري إلى استعمار المعنى

الاستعمار الكلاسيكي دخل بلادنا بالسلاح، لكنه خرج بالمعاهدات، بعد أن زرع فينا ما هو أخطر من الاحتلال: الانهزام الذهني والتشكيك في الثوابت. لقد أدرك المستعمر – خصوصًا الفرنسي والإنجليزي – أنّ السيطرة الحقيقية لا تكون على الأرض بل على العقل. وهكذا بدأ ما أسماه مالك بن نبي "الاستعمار الثقافي" و"القابلية للاستعمار".

وكان من أبرز أدوات هذا الغزو الجديد:

  • تشويه التراث الإسلامي.
  • تصوير الشريعة كمجرد اجتهاد تاريخي متخلّف.
  • إحلال المنهج الغربي محل التفسير القرآني.
  • ترويج مفهوم "نسبية الحقيقة" كوسيلة لهدم أي مشروع مقاومة فكري أو حضاري.


ثانيًا: كيف استُخدمت النسبية لتفكيك الهوية الإسلامية؟

  1. في العقيدة: أصبح يُروَّج أن كل الأديان "طرقٌ إلى الله"، وأن الإسلام مجرد "خيار روحي"، وليس دينًا حقًا يلزم الناس باتباعه.
  2. في القيم: تم التشكيك في مفهوم الحلال والحرام، وربط القيم بالأمزجة والأعراف، حتى صارت الشذوذ والانحرافات تُبرَّر بأنها "حقائق مختلفة".
  3. في التاريخ: فُكك التاريخ الإسلامي إلى "سرديات متعددة"، وجُرّد من أي بُعد إلهي أو رسالي، فصار يُدرَّس كحروب قبائل لا كمسيرة أُمة تحمل رسالة.
  4. في النهضة: قُدّمت النماذج الغربية على أنّها "واقع لا يُرد"، وقُيّدت محاولات النهضة الإسلامية في قوالب "الحداثة" و"القبول بالآخر" مهما كانت عقيدته أو فكره.


ثالثًا: من الفلسفة إلى الإعلام والتعليم

لم تبقَ النسبية في حدود النخبة الفكرية، بل أصبحت تُبثّ:

  • عبر مناهج التعليم المستوردة، التي تساوي بين كل الثقافات، وتُجرّد الطلاب من الثقة بالدين.
  • في الإعلام الذي يُصدّر مشاهير يتحدثون عن "كل واحد حر في طريقته"، و"لك حقيقتك ولي حقيقتي".
  • على المنصات العالمية التي تُحظر الدعوة إلى الإسلام وتسمح – بل تروّج – لأي انحراف أخلاقي أو ديني بحجة "حرية التعبير".


رابعًا: الأثر العملي الكارثي

حينما تُنزع الحقيقة من وعي الأمة، فإنّ ما يلي ذلك حتمي:

  • تَضيعُ البوصلة الأخلاقية.
  • تتشظى الهوية الجمعية.
  • يصبح العمل الجماعي مستحيلًا، لأنّه لا أحد يتفق على نقطة انطلاق.
  • يتم تفريغ النصوص الشرعية من معناها الملزِم.
  • تنتصر الفوضى باسم الحرية.

وهنا تتضح عبقرية الاستعمار في استخدام "الفكر" كبديل عن الدبابة.


خامسًا: هل نحن وحدنا؟

لا، هذه الحرب الفكرية استهدفت أيضًا شعوبًا أخرى، كأمريكا اللاتينية والهند والصين، ولكن الغرب أيقن بعد عقود من التجريب أن "تفكيك الوعي الإسلامي" يحتاج لفوضى معرفية مغلّفة بلغة التسامح، لأن هذه الأمة تحمل رسالة ذات طابع عالمي، لا مجرد ثقافة محلية.


سادسًا: إلى أين يقودنا هذا؟

إذا استمرت الأمة في تبني النسبية كمنهج تفكير:

  • فسنفقد القدرة على التمييز بين الطاغية والمجاهد.
  • وسنساوي بين الغازي والمقاوم.
  • وسنتردد في الحكم على المجرم بحجة "أنّ له وجهة نظره".

وهكذا يُنتَزع الإسلام من جذوره تحت راية "التعددية"، ونبقى في دوامة عبثية بلا مرجعية.


تمهيد للمقال القادم

لقد أدركنا أنّ النسبية ليست فقط صنمًا، بل سلاحًا موجهًا إلى قلب أمتنا. ولكن ما العمل؟ كيف نواجه هذه الفوضى المعرفية؟ وما هي الخطوات الواقعية التي يُمكن اتخاذها لنثبّت أقدامنا على أرض الحقيقة ونسترد وعي الأمة؟

هذا ما سنناقشه – بإذن الله – في المقال القادم:

"كيف نُحطّم صنم النسبية ونبني وعيًا ثابتًا في زمن السائل؟"

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام