نهضة بلا إذن (37): هدم صنم النسبية: نحو وعي ثابت في زمن السيولة
في زمنٍ
يُسوَّق فيه للضياع بوصفه حرية، ويُدعى إلى الفوضى باسم التعددية، تصبح مهمة بناء
وعيٍ ثابت لا تقل صعوبة عن مقاومة الاحتلال. بل لعلها المقدمة الحقيقية لكل مقاومة
ناجحة.
فما العمل؟ كيف نحطم صنم "نسبية الحقيقة" دون أن نقع في الغلو؟ وكيف نبني وعيًا يعانق الثوابت دون أن يتجمد عن الحركة؟
أولًا: إعادة تعريف الحقيقة
الخطوة الأولى لمواجهة النسبية هي استرداد تعريف الحقيقة.
فالحقيقة في
التصور الإسلامي ليست وجهة نظر، ولا تجربة ذاتية، ولا خيارًا ثقافيًا…
بل هي ما وافق
الواقع، أو ما أخبر به الوحي الصادق.
"فماذا بعد الحق إلا الضلال؟" يونس: 32
لسنا بحاجة إلى اختراع تعريف جديد، بل إلى الجرأة في الاعتراف بأن في هذا الوجود حقًا وباطلًا، وأن "الاختلاف" لا يعني دائمًا "تساوي الأطراف".
ثانيًا: العودة إلى المصدر الذي لا يتغير
في عالمٍ تتغير فيه كل المعايير تبعًا للمصالح والقوة والدعاية، يبقى الوحي الإلهي هو المرجعية الوحيدة الثابتة، التي لا تخضع لأهواء البشر.
القرآن والسنّة ليسا نصّين تراثيين نفاوض عليهما مع الحداثة، بل هما حجر الأساس الذي نعيد عليه بناء التصورات والمفاهيم.
"وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" الأنعام: 153
ثالثًا: تفكيك النسبية من الداخل
من المفارقات أن مقولة "كل شيء نسبي" تحمل في ذاتها تناقضًا منطقيًا، فهي تُطلق كحقيقة مطلقة تنفي وجود أي حقيقة مطلقة!
هنا يجب استخدام المنطق نفسه في تفنيد النسبية:
- إذا كانت كل الآراء صائبة، فهل من يرفض النسبية رأيه أيضًا صائب؟
- وإذا كانت الحقيقة تتعدد، فلماذا يُمنع من يعتقد بالحقيقة الواحدة من التعبير؟
إنّ النسبية سلاح انتقائي، لا يُستخدم إلا لهدم الثوابت، وليس لهدم التسلط الغربي أو الاستكبار العالمي!
رابعًا: بناء مناهج تعليمية تربوية ثابتة
مواجهة النسبية لا تكون عبر المقالات فحسب، بل لا بد من زرع بذور الوضوح في الجيل الجديد:
- مناهج تؤصل للإسلام بوصفه دين حق لا رأي ثقافي.
- تدريس التاريخ الإسلامي كمسيرة هادفة، لا كفوضى سياسية.
- توضيح الفروق بين الاختلاف المشروع والباطل الفكري.
- تدريب الأطفال على التمييز بين "احترام الناس" و"تسوية القيم".
خامسًا: دعم الخطاب الإسلامي العقلاني
نحتاج إلى خطابٍ يدمج بين العقل والنقل، بين الثبات والانفتاح المنضبط.
فالناس ضحايا للنسبية ليس لأنهم يكرهون الحقيقة، بل لأننا تركنا الساحة فارغة، فملأها غيرنا.
ولهذا:
- لا بد من اجتهاد علمي يجمع الثقة بالأصول مع إدراك الواقع.
- لا بد من علماء يربطون النصوص بحاجات العصر دون أن يميعوها.
- لا بد من دعاة يعرفون لغة الناس ولا يتنازلون عن جوهر الدين.
سادسًا: بث أمثلة حية على الثبات الناجح
لا يكفي التنظير. نحتاج إلى عرض نماذج حقيقية من الواقع:
- أُمم نهضت لأنها تمسكت بهويتها (كتركيا ما بعد الانقلاب).
- شخصيات أثرت لأنها لم تتنازل عن الحقيقة (كمالك بن نبي، ومحمد إقبال).
- مؤسسات وُلدت من رحم المبدأ لا من أحشاء التكيف (كحركات المقاومة الصادقة).
سابعًا: خطوات عملية للشباب والمجتمع
- حدد ثوابتك بوضوح: في العقيدة، القيم، مصادر المعرفة.
- درّب نفسك على الحُكم بين الأقوال: ليس كل رأي يُحترم يستحق الاتباع.
- انضم إلى مشاريع فكرية تربوية تُعيد للأمة يقينها.
- واجه الأفكار لا الأشخاص: حافظ على أدب الخلاف، لكن لا تساوي بين الحق والباطل.
- ابدأ من ذاتك: فـ"إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
خلاصة
نحن في زمن ليس فيه الصراع على الأرض فقط، بل على الحقيقة نفسها.
فمن رضي أن تكون الحقيقة نسبية، رضي أن يكون الإسلام مجرد رأي، والشذوذ خيارًا محترمًا، والتطبيع وجهة نظر.
والأمة التي تفقد يقينها، لا يمكن أن تنهض… بل لن يبقى منها شيء يستحق النهوض.
فانهض أيها القارئ… ولا تطلب الإذن.
Comments
Post a Comment