نهضة بلا إذن (38): هدم صنم السياسة نجاسة

 

سلسلة نهضة بلا إذن

في مجتمعاتنا اليوم، تسود مقولة ترددت على ألسنة الصالحين كما الفاسدين، على جدران المساجد كما صفحات الإعلام:

"السياسة نجاسة… ومن أراد الطهارة فليعتزلها!"

ولم تكن هذه العبارة محض رأي، بل عقيدة ثقافية منعت أجيالًا من خوض غمار السياسة، بدعوى الحفاظ على الدين، بينما اغتصب السفلة مفاصل الحكم، وبقي الأخيار على الهامش… يتأوهون من الواقع، ثم يتوضؤون للصلاة!

لكن هل حقًا السياسة نجاسة؟ أم أنّ هذا الصنم زرعه أعداؤنا فعبدناه ونحن نظن أننا نُحسن صُنعًا؟


أولًا: هل كانت السياسة نجسة حين مارسها النبي ﷺ؟

لنسأل أنفسنا:

  • من أقام الدولة في المدينة؟
  • من عقد المعاهدات؟
  • من قاد الجيوش؟
  • من بعث السفراء؟
  • من خطب في الناس، وقسّم الثروات، وسنَّ الأنظمة؟

أليست هذه كلها من صميم العمل السياسي؟

كيف نصف ما فعله رسول الله ﷺ ؟!

نقول أنّ هذه هي قمة الطهارة، وأعلى درجات السمو، فممارسته عليه الصلاة والسلام كانت أرفع أشكال السياسة النبوية .

وماذا نفعل بحديث: 

"كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي…"
)
رواه البخاري ومسلم(

ولفظ "تسوسهم" هنا واضح: سياسة!

فكيف نقبل اليوم أن يُقال إنّ السياسة سُبّة، بينما هي عند نبينا وظيفة نبوية؟!


ثانيًا: السياسة بدأت من المسجد… فكيف تُتَّهَم بالنجاسة؟

في المدينة، كان المسجد النبوي هو مركز الدولة:

  • تُستقبل فيه الوفود.
  • تُدار فيه شؤون الأمة.
  • تُعلن فيه القرارات.
  • تُناقش فيه المعاهدات والحروب.
  • ويُعزل فيه الخلفاء ويُبايعون.

فهل المسجد احتضن نجاسة؟!

أم أنّ نجاسة هذا الزمان ليست في السياسة نفسها، بل في من لوّثوها لمّا أُقصي أهل الصلاح عنها؟


ثالثًا: تعريف العلماء للإمامة: سياسة لا نجاسة

في كتب السياسة الشرعية، يُعرَّف الحكم بأنّه:

"خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به."

فمن ذا الذي قلب هذا التعريف النبيل إلى وصفٍ بالنجاسة؟

إنما هي عقود من الغزو الفكري، والدعوات الصوفيّة المشوهة، والعلمانية المتدثرة بثياب الدين، جعلت من "الانزواء" زهدًا، ومن "ترك الأمة" عبادة!


رابعًا: من الذي روّج لهذه الفكرة أصلًا؟

عندما يُقصى أهل الدين عن السياسة، يُصبح الحاكم:

  • عميلاً بلا محاسبة.
  • ظالمًا بلا رادع.
  • ناشرًا للفساد، باسمه، وباسمكم.

وحين يسأل الناس: أين أهل الدين؟

يُقال ببساطة: "السياسة نجاسة!"

في حين أنّ الغرب لم ينجُ من الطغيان إلا عندما انخرط الصادقون في السياسة.

فهل نتركها للفاسدين ثم نلعنهم من المنابر؟

وهل نهرب منها خشية تلويث أنفسنا، بينما تَغرق الأمة كلها في وحل السياسة القذرة؟


خامسًا: نتائج كارثية لهذا الصنم

  • تَرك الساحة بالكامل للعلمانيين والمنافقين.
  • تحويل الدين إلى طقوس فردية لا علاقة لها بحياة الناس.
  • اختفاء النموذج السياسي الإسلامي من الأذهان.
  • تخدير الشعوب بالدروشة الروحية والسكوت عن الظلم.
  • انحطاط الوعي الجماعي حتى بات يُنظر للحاكم كإله، والمعارض كخائن.

كل هذا لأنّ الصالحين قالوا:

"نحن لا نلوث أيدينا بالسياسة!"

وإذا كان أهل الخير لا يتقدّمون لحكم الناس، فلا يلوموا إلا أنفسهم إن حكمهم أهل الشر.


سادساً: سبب تغلغل هذا الوهم في العقول؟

لم يتسلّل هذا الصنم إلى العقول فجأة، بل غُرِسَ فيها عبر مشروع طويل الأمد لتشويه كل ما يمتّ للإسلام السياسي بصلة.
كلما ذُكر التاريخ الإسلامي، سُلِّط الضوء فقط على لحظات الاقتتال حول الحكم، وتُركت قرون من العدل والازدهار والحضارة في الظل… حتى أصبح الحكم في الوعي الجمعي مرادفًا للدماء، لا للرحمة.

وحين ظهرت حركات إسلامية تسعى للنهضة، تصدّت لها آلة التشويه، وربطت بين كل تجربة فاشلة وبين الإسلام ذاته، وكأنّ الدين مسؤول عن تصرفات أفراد أو فصائل لم تكتمل لديهم أدوات الحكم أو اختلت بوصلتهم.

وفوق ذلك، لا يمكن إنكار أثر غياب النموذج العملي اليوم الذي يمكن للناس أن يُبصروا من خلاله كيف تبدو السياسة في الإسلام.
فلا يكفي التنظير… فالشباب بحاجة إلى قدوة حية، تُجسّد السياسة بوصفها أمانة وعدلاً، لا مكراً وخداعًا.

لكن في المقابل، لا ينبغي أن ننتظر "المخلّص" الذي سيحلّ لنا كل شيء، ولا القائد الملهم الذي سينزل من السماء!

بل علينا أن نهيّئ الأرض لذلك اليوم، بالوعي، والقراءة، واستعادة التاريخ المشرِّف لا المحرَّف، وبالخوض في التجارب السياسية الجادة التي تهدف إلى رفع الظلم وإقامة العدل.

هكذا فقط نصنع النموذج، ونُسقط الصنم.


 سابعاً: خطوات عملية لهدم هذا الصنم

  1. إعادة تأصيل العلاقة بين الدين والسياسة في الوعي الجماعي، عبر الدروس والخطب والدورات.
  2. كتابة وإعادة نشر التاريخ السياسي للنبي ﷺ والخلفاء الراشدين بطريقة تربط الدين بالحكم.
  3. إعداد جيلٍ من الشباب المؤمن الواعِي، المتمكن في إدارة الشأن العام، لا يخجل من الانخراط في السياسة بوصفها مسؤولية لا مفسدة.
  4. تفنيد الخطاب الذي يُشيطن كل حركة سياسية إسلامية بحجة الوقوع في "المزالق"، فحتى الصمت عن الظلم مزلق أكبر.
  5. تكوين مؤسسات موازية تُمارس السياسة بنظافة، لتكون دليلًا عمليًا على أنّ الطهارة والسياسة يمكن أن يجتمعا.

خاتمة

من قال إنّ السياسة نجاسة، فقد طعن في سيرة النبي ﷺ من حيث لا يدري، وتسبب – بغير قصد – في تفريغ الساحة للفجرة.

ومن انتظر نهضة الأُمة بينما هو يكتفي بالتهجد والدعاء، فقد فهم الدين ناقصًا… ونهضة هذه الأمة لا تقوم بدعاء الساجدين فقط، بل بخطى الساعين المصلحين.

إنّ من الحماقة أن نترك الساحة السياسية لمن لا يعرفون الله، ثم نشتكي من الظلم والعلمنة والانحراف!

فانهض أيها القارئ… ولا تطلب الإذن.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام