نهضة بلا إذن (39): تكسير صنم الرأسمالية — وهمُ التقدّم الذي استعبدنا من جديد

 

سلسلة نهضة بلا إذن

أولًا: جوهر الرأسمالية وفلسفتها… حين يصبح الإنسان عبدًا للربح

الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي يضبط العلاقات التجارية ويشجع على المبادرة الفردية كما يُظن، بل هي فلسفة متكاملة تُحدّد نظرة الإنسان إلى الحياة، ومعنى النجاح، وغاية الوجود.
وُلِدت الرأسمالية من رحم الثورة الصناعية في أوروبا، حين بدأ الغرب ينقلب على الكنيسة والإقطاع، وشرع يبحث عن معنى جديد للحياة، لكنّه لم يلجأ إلى الوحي بل إلى المنفعة، ومن هنا تأسست الفكرة: "لا وجود لقيمة عُليا تحكمنا، وإنما السوق هو المعبود الجديد الذي يُحدّد الصواب والخطأ".

في الرأسمالية، يصبح الإنسان "وسيلة" وليس "غاية". ويُقاس نجاحه بما ينتجه ويستهلكه، لا بما يقدّمه من خير للناس أو بما يحقّقه من تزكية للنفس. ومن هنا بدأت الرحلة من تقديس الله إلى تقديس المال.

تُصور الرأسمالية العالم كساحة صراع دائم: من لا يربح يخسر، ومن لا ينافس يفنى. وما النجاح فيها إلا أنانية محضة مغلّفة بكلمات لامعة مثل: "الحرية"، "الكفاءة"، و"الفرص المتساوية".

أما الفقراء والضعفاء فمكانهم الطبيعي هو هامش الحياة، أو برّر وجودهم كـ"أداة" لتحفيز الأغنياء على مزيد من الإنتاج!


ثانيًا: كيف يُسوّق لها؟ سحر الكلمات وتزييف القيم

لعل أخطر ما في الرأسمالية أنها لا تفرض نفسها كاستعمار عسكري مباشر، بل تدخل من أبواب التنمية، التقدّم، التكنولوجيا، الاستثمار، حرية السوق وغيرها من الشعارات اللامعة.
فالمنظّرون للرأسمالية يقدّمونها على أنها الحل الطبيعي للتخلّف، ويبرّرون كلّ كوارثها بأنها "أعراض جانبية مؤقتة" لمسيرة طويلة نحو الازدهار.

يُقال لنا: "من أراد أن ينهض فعليه أن يفتح سوقه، ويشجع الاستثمارات الأجنبية، ويخفف من القيود على رأس المال، ويقلّص دور الدولة، ويمنح القطاع الخاص حرية مطلقة!"
ويُقال للشباب: "أنت وحدك من يصنع مستقبلك. لا أحد مسؤول عنك. لا تتكل على أحد، فقط اجتهد وسَتَنجَح."
ولكنهم يخفون عنهم أن النظام كله مائل لصالح طبقة واحدة، وأنّ النجاح في هذا النظام غالبًا ما يكون على حساب الآخرين.

كل شيء خاضع للسوق: التعليم، الصحة، الإعلام، حتى القيم والأخلاق. وصار الفرد في هذا النظام يشعر بالذنب إذا لم ينجح اقتصاديًا، بدل أن يشعر المجتمع بالذنب لأنه خذل أفراده.


ثالثًا: الآثار الكارثية للرأسمالية… غربًا وشرقًا

لقد جرّب الغرب الرأسمالية طيلة قرنين، فماذا كانت النتيجة؟
ثروات هائلة مركّزة في يد القلّة، انقراض الطبقة الوسطى، تحوّل الإنسان إلى آلة إنتاج واستهلاك، انهيار الأسرة، ازدياد الأمراض النفسية، واستعباد الشعوب الفقيرة عبر الديون والمؤسسات الدولية.
وها هو الغرب اليوم يترنّح تحت وطأة ما صنعته يداه.

أما المسلمون، فحين تبنّوا الرأسمالية، فعلوا ذلك دون أن تكون لهم القدرة على المنافسة أصلاً. فصاروا مجرد سوق استهلاكية عملاقة، يستهلكون ما لا يصنعون، ويستوردون ما لا يزرعون، ويعيشون على هامش الحضارة.

بل الأدهى أن الفكر الرأسمالي تسلّل إلى عقول الشباب:
فصار مفهوم "النجاح" مرادفًا للغنى، وصارت "الحرية" تعني التحرر من أي مسؤولية اجتماعية أو دينية، وصارت "القيمة" تُقاس بعدد المتابعين أو الأرباح.

وقد نهانا الله عن هذا الانقياد الأعمى وراء أهل الدنيا:

"وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" طه: 131

وقال ﷺ: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة..." رواه البخاري

لقد انقلبت الموازين حتى أصبح الدين في خانة "الكماليات"، بينما الاقتصاد هو الأولوية، وكأننا خُلقنا لنستهلك فقط!


رابعًا: خطوات عملية نحو التحرر من عبودية السوق

إن تحطيم صنم الرأسمالية لا يعني الهروب من الاقتصاد أو كراهية المال، بل يعني إعادة ضبط البوصلة، ليعود المال وسيلة لا غاية، وليعود الإنسان عبدًا لله لا للسوق.

وفيما يلي بعض الخطوات العملية لذلك:

  1. ترسيخ مفهوم الكفاية لا التكديس:
    ربّ أسرة يسعى لتأمين رزقه من عمل حلال يكفيه ويغنيه، خير من موظف يتسلّق المناصب ويبيع دينه وأخلاقه من أجل راتب أعلى.

  2. إحياء الاقتصاد الإسلامي البديل:
    من خلال مبادرات الوقف، والزكاة، والتكافل، والبنوك الإسلامية الحقيقية، والتعاونيات، ومشاريع التمويل الأصغر القائمة على القيم الإسلامية.

  3. إعادة تعريف النجاح:
    النجاح لا يعني أرباحًا في الدنيا فحسب، بل أثرًا نافعًا وأخلاقًا راسخة ورضا الله قبل كل شيء. وهذا يتطلب تغيير المحتوى الإعلامي والتعليمي الذي يروّج لقيم السوق.

  4. مقاطعة ثقافة الاستهلاك:
    نُعلم أبناءنا أن السعادة لا تأتي من آخر صيحة هاتف، ولا من ماركة الحذاء، بل من القناعة، ومن العمل الصالح، ومن مشاركة الخير مع الآخرين.

  5. نشر الوعي بالعدالة الاجتماعية في الإسلام:
    الدين لا يُقدّس الفقر، ولكنه أيضًا لا يُقدّس الثروة. الإسلام يعلي من شأن من يسعى للرزق الحلال، لكنه يُحذّر من طغيان المال.

  6. فضح تناقضات الرأسمالية في خطابها وسلوكها:
    من يدّعي الحرية، يدعم شركات تحتكر السوق. ومن يتحدث عن الكفاءة، يدعم البنوك الربوية التي تستعبد الأمم. فلنفضحهم، بالحجة، وبالمثال، وبالبديل العملي.

الخاتمة:

الرأسمالية ليست قدَرًا لا يُرد، وليست حقيقة علمية كما يزعمون، بل هي صنم جديد يجب أن يُكسَر.
وإذا لم نُحرّر عقولنا منها، فلن نستطيع أن نبني مشروعًا إسلاميًا يُنقذ أمتنا، لأننا سنظل ندور في فلك غيرنا ونستهلك ما ينتجونه ونتبنّى قيمهم في لباسنا، وسلوكنا، وحتى في عباداتنا!
وحين يعود المسلم عبدًا لله وحده، ويحرّر نفسه من أوهام العصر، حينها فقط يمكن أن تنطلق النهضة من جديد.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام