نهضة بلا إذن (40): التحالف المقدّس - كيف لا تستطيع الرأسمالية النجاة دون الليبرالية؟
أولاً: الرأسمالية ليست نظامًا اقتصاديًا محايدًا
ثمة خطأ شائع بين كثير من الناس، حتى بعض الإسلاميين، أن الرأسمالية محض "آلية اقتصادية"، يمكن تبنّيها أو تعديلها وفق الرؤية الإسلامية دون إشكال. لكن هذا الادعاء يغفل أن كل نظام اقتصادي يعكس منظومة قيم متكاملة، ويُنتج نمطًا حياتيًا، وتصورًا عن الإنسان والمجتمع والغاية.
إن مجرد تأمل الاسم"رأسمالية" (Capitalism) يكشف مركز الثقل فيها: رأس المال، لا الإنسان، ولا العمل، ولا القيمة الأخلاقية.
فالمعيار الوحيد الذي يُقاس به النجاح والفشل هو الربح. وهكذا يتحوّل الإنسان إلى ترس صغير في ماكينة عملاقة، لا يهم فيها ماذا تنتج، بل كم تربح. سواء كان ذلك من بيع الخمور، أو السجائر، أو حتى الأعضاء البشرية.
ثانياً: فلسفة الرأسمالية: الربح أولًا، والباقي كماليات
الرأسمالية في جوهرها ليست فقط اقتصادًا؛ بل "عقيدة دنيوية" ترى أنّ سعادة الإنسان تتحقق بالتحرر من القيود القيمية والأخلاقية التي تحدّ من حركته في السوق. إنها تؤمن أن السوق - الحر بطبيعته - قادر على تنظيم نفسه بنفسه، وكل تدخل خارجي، خصوصًا إذا كان بدافع ديني أو أخلاقي، يُعتبر تشويشًا غير مرغوب فيه.
ولهذا، فإن المؤسسات الرأسمالية الكبرى اليوم — شركات الأدوية، الإعلام، التجميل، التكنولوجيا، وغيرها — ليست محايدة، بل تحارب كل ما يعترض طريق أرباحها.
بل إن كثيرًا من تلك المؤسسات العابرة للقارات لم تعد تتبع لدولة أو أمة، بل تُدار ككيانات مستقلة، لا تعترف إلا بمن يوفّر لها بيئة أكثر انفتاحًا... أو انحلالًا.
ثالثاً: الليبرالية: السند الفلسفي للرأسمالية في وجه القيم
تحتاج الرأسمالية إلى حاضنة فكرية تُبعد القيم عن السوق، وتمنع المجتمعات من فرض "المعنى" أو "الأخلاق" على التجارة، وهنا يأتي دور الليبرالية.
الليبرالية ليست فقط دفاعًا عن الحرية، بل فلسفة تعتبر "الحرية الفردية المطلقة" هي المعيار الأعلى لكل شيء. ولهذا فهي ترفض أن يُفرض على الناس ما يجب أو لا يجب عليهم فعله، ولو كان ذلك من منطلق ديني أو أخلاقي.
هذه الليبرالية
لا تقف فقط ضد الدولة الدينية، بل ضد المجتمع الأخلاقي أيضًا، لأنه – ببساطة –
يتدخل في خيارات الفرد "الربحية"، وهنا يلتقي الطريقان:
الرأسمالية
التي لا تعرف إلا الربح، والليبرالية التي لا تعرف إلا الفرد.
رابعاً: لماذا تحتاج الرأسمالية إلى الليبرالية؟
لنفترض أن دولة
ما حاولت ضبط السوق بقيود أخلاقية أو دينية، كمنع الخمور، أو حظر المنتجات غير
المحتشمة، أو محاربة المحتوى الجنسي والإباحي في المنصات الرقمية...
سيكون ردّ
الشركات الرأسمالية:
"هذا تدخّل في السوق، وهذا يُخالف حرية الأفراد، ويُضر بالمستثمرين."
ستضغط هذه الشركات سياسيًا، وقد تهدد بسحب استثماراتها، وستدعم المنظّرين الليبراليين الذين يقولون إن "الحرية الاقتصادية لا تنفصل عن الحرية الشخصية."
ولذلك، الرأسمالية لا يمكن أن تزدهر في بيئة تُقيم وزناً للأخلاق الدينية أو القيم الجماعية أو الحسبة الشرعية، بل تحتاج دومًا إلى منظومة تفصل الدين عن الحياة العامة، وتُفرّغ القانون من المحتوى الأخلاقي.
أي: تحتاج إلى العلمانية الليبرالية.
خامساً: التعارض الصريح مع الإسلام
لا يخفى على دارس للشريعة أن هذا التحالف الرأسمالي-الليبرالي يُعارض التصور الإسلامي في جذوره:
- التشريع الاقتصادي في الإسلام ليس فقط لتحقيق الكفاءة، بل لضبط السوق بالعدالة والرحمة.
- الإسلام يُحرّم الربا، والاحتكار، والغش، والإباحية، والمتاجرة بالغرائز، ولو كانت رابحة.
- الإسلام يجعل من الخلافة "سياسة للدنيا بالدين"، لا فصلاً بينهما.
- في الإسلام: المال وسيلة، لا غاية. والإنسان مستخلف فيه، لا مالك مطلق له.
ومن هنا ندرك لماذا تُحارب الرأسمالية الإسلام السياسي، وتدعم كل من ينزع من الإسلام بعده السياسي أو الاقتصادي أو القيمي، لتبقى السوق حرة، لكن فارغة من المعنى.
سادساً: خطوات عملية للتحصين ورفع الوعي
- كشف العلاقة بين الليبرالية والرأسمالية في خطابنا العام، وتفنيد مقولة "الرأسمالية محايدة" التي تُسوّق بكثرة.
- توعية الشباب بأن الحرية الليبرالية ليست بالضرورة خيرًا، خصوصًا إذا كانت مطيّة للاستغلال المالي والإباحي.
- تعليم الاقتصاد الإسلامي كمشروع حضاري بديل، وليس مجرد "فقه المعاملات".
- بناء مؤسسات اقتصادية إسلامية واقعية، تجمع بين القيم والكفاءة، وتُقدّم نموذجًا مختلفًا في التمويل والإنتاج والاستهلاك.
- فضح الرموز الثقافية الليبرالية الذين يُروّجون للاستسلام للرأسمالية، ولو تحت لافتة "الواقعية".
- إحياء فقه الحسبة وتطبيقه في المجالات الإعلامية والاقتصادية، ولو على نطاق محلي ومجتمعي.
ختامًا:
الرأسمالية لا
تنتعش وحدها. بل تحتاج دائمًا إلى فكر يُحيّد القيم، ويمنع تدخل الدين، ويُفرّغ
القانون من الأخلاق.
وهذا الفكر هو الليبرالية.
فلا تندهش إذا
رأيت أنّ الليبراليين الجدد هم أكثر المدافعين عن شركات التبغ، والأفلام
الإباحية، والمنصات الهابطة...
ولا تندهش إذا
علمت أنّ الشركات الرأسمالية الكبرى هي من تموّل "المعارك الثقافية"
باسم الحرية.
فهما وجهان
لعملة واحدة…
عملة لا إله
لها سوى الربح.
Comments
Post a Comment