نهضة بلا إذن (41): العلمانية - نسيان الله في الحياة اليومية
أولاً: لا تحتاج العلمانية إلى قانون لكي تعمل
كثير من الناس يظنون أنّ العلمانية تفرضها الدولة فقط عبر الدساتير أو القوانين. لكن في الحقيقة، هناك علمانية بلا قانون، أخطر من تلك التي تُشرّعها البرلمانات.
ففي حياة الإنسان اليومية، في اقتصاده، عمله، استهلاكه، تفاعله مع السوق... تجري الأمور دون أدنى حضور للدين أو القِيم، لا لأنّ الدولة منعته، بل لأنّ الناس أنفسهم نَسُوه.
خذ مثال
الشركات: ستجد خبير المحاسبة، خبير التسويق، خبير القانون، خبير الموارد البشرية...
لكن نادرًا ما
تجد خبيرًا شرعيًا أو "مدققًا فقهيًا" للعقود والمعاملات!
ولماذا؟
ليس لأن
القانون مَنع ذلك، بل لأنّ السؤال عن الحلال والحرام أصلاً لم يعد مطروحًا.
ثانياً: العلمانية كأمر واقع في حياة المسلم المعاصر
هذه الحالة —
أن يسير الناس في تفاصيل حياتهم دون الرجوع إلى الشريعة — ليست طبيعية، ولا بريئة.
إنها نتيجة
تراكم طويل من نزع الدين من الحياة، حتى صار الاقتصاد "علمًا دنيويًا" لا علاقة له بالحلال والحرام.
فأصبحت الشركة تُوقّع مئات العقود يوميًا دون أن تتساءل لحظة:
هل هذا البيع جائز؟ هل هذه الشروط ربويّة؟ هل هذه العقود ترضي الله؟
لقد مرّ جيل كامل من المسلمين في بلاد الغرب، بل وحتى في بلاد المسلمين، دون أن يعلم أنّ في الإسلام شيئًا اسمه "فقه المعاملات"، يضبط البيع، والشراء، والشراكات، والوقف، والعقود...
وهنا يكمن جوهر
العلمانية:
ليس في وجود
قانون يمنع الدين، بل في بيئة تنسى الدين.
ثالثاً: إذا غابت القيم، فإنّ الرأسمالية ستملأ الفراغ
في ساحة فارغة
مِن الدين، مَن الذي يهيمن؟
الرأسمالية.
لأنّ السوق لا
يعرف الفراغ.
وإذا لم يكن
هناك مَن يُسائل المشاريع التجارية من منظور أخلاقي أو شرعي، فإنّ الشركات
الرأسمالية — بما لها من المال، والنفوذ، والقدرة على التأثير — ستملأ هذه الساحة،
وتُعرّف "النجاح" بما يخدم مصلحتها.
وبما أن معيار السوق هو الربح فقط، فإن القِيم الأخلاقية، والدينية، والفطرية، تصبح بلا وزن.
رابعاً: مِن تحييد الدين... إلى نسيان الله
المرحلة الأولى في المشروع العلماني هي تحييد الدين من الشأن العام.
لكنّ الخطر الأكبر ليس فقط في هذا التحييد، بل في أن يستقر نسيان الله في النفوس، حتى لا يعود الإنسان يرى أنّ له ربًّا يسأله عن البيع والشراء، عن الترويج والإنتاج، عن الإعلان والتسويق.
وهذا هو ما يصفه عبد الوهاب المسيري بأنه "تحييد الدين ثم تحييد الأخلاق، ثم نسيان الإنسان أنه مخلوق مسؤول."
تتحوّل الحياة اليومية إلى منظومة مغلقة لا مكان فيها للرب، ولا للمُحاسبة، ولا للتكليف، بل ولا حتى للضمير الفطري.
وكما عبّر بعض الفلاسفة، فإن العلمانية الحديثة ليست فقط إقصاءً للدين، بل هي تأليهٌ للطبيعة والإنسان.
خامساً: هذه ليست "حيادية"... بل هي ضد الإسلام
قد يُقال إنّ العلمانية تمنح الحرية للجميع، فلماذا نعارضها؟
الرد:
لأن العلمانية
— في تطبيقها الواقعي — لا تقف على مسافة واحدة من الجميع، بل تفرض نسيان الدين،
وتجعل من الجهر بالقيم نوعًا من "العدوان".
- إذا أنكرت المنكر في السوق، فأنت "تتدخل في الحرية".
- إذا طالبت بضوابط أخلاقية، فأنت "ضد الانفتاح".
- إذا نصحت بأحكام الشريعة، فأنت "تفرض دينك".
وهكذا تُحوّل العلمانية الإسلام من دين شامل يُنظّم الحياة، إلى مجرد "روح فردية" لا مكان لها في السوق أو السياسة أو الإعلام.
ختامًا: كيف نُعيد الله إلى حياتنا؟
- إحياء فقه المعاملات في خطابنا اليومي، وربطه بأمثلة معاصرة يفهمها الجميع.
- إعادة حضور الخبير الشرعي في المؤسسات الاقتصادية، لا كمُزيّن، بل كمُقرّر.
- ربط العلم بالدين: فلا يوجد "علم دنيوي خالص"، بل كل علم يُوجَّه بأخلاق وقيم.
- كشف خدعة الحيادية العلمانية، وأنها في حقيقتها مشروع لإقصاء الله من حياة الإنسان.
- التحذير من تحوّل النسيان إلى إنكار، ومن الغفلة إلى رفض، ومن الصمت إلى عداء.
Comments
Post a Comment