نهضة بلا إذن (42): الليبرالية وتفكيك الإنسان

 

سلسلة نهضة بلا إذن

1. الليبرالية تُفكّك الروابط لا تبنيها

الليبرالية، في جوهرها، تقدّس الفرد، وتُقصي كل ما يَحُدّ من اختياراته، ولو كان ذلك الأُسرة أو الدين أو الفطرة.
وهذا التقديس، بطبيعته، يؤدي إلى تفكك كل الروابط التي تربط الإنسان بغيره.

  • لم يعد هناك "أبٌ مسؤول".
  • لم تعد هناك "أسرة مترابطة".
  • لم يعد هناك "مجتمع" بالمعنى الحقيقي.

بل أصبح كل فرد معزولًا، يعيش في شقته الخاصة، يتخذ قراراته وحده، ويربي أبناءه — إن وُجدوا — دون مرجعية أو سلطة عليا سوى القانون.


2. تآليه الإنسان: الرأي هو الدين

أحد أخطر مخرجات الليبرالية هو تحويل الرأي إلى دين.

"أرأيت من اتخذ إلهه هواه؟"

حين يُقال إنّ "لكل شخص رأيه ويجب احترامه"، دون قيد ولا شرط، فهذا يعني أنّ رأي الإنسان يصبح مقدسًا، ولا يحق لأحد أن يُناقشه أو يعترض عليه، مهما كان فاسدًا أو خطيرًا أو مخالفًا للفطرة.

بل تُصبح سلطة الأب مرفوضة، لأنّ "لكل شخص الحق في رأيه"… حتى لو كان ابنًا في الخامسة من عمره!


3. سقوط المؤسسات الوسيطة: لا أب، لا أسرة، لا مجتمع

المجتمعات التقليدية — ومنها المجتمعات الإسلامية — كانت تقوم على مؤسسات وسيطة:

  • الأسرة
  • القبيلة
  • الجيران
  • المسجد
  • الحيّ

أما الليبرالية، فترى أنّ هذه المؤسسات تُقيّد حرية الفرد، وأنّه لا يحق لأحد أن "يفرض رأيه" على الآخر.

وبالتالي، تسقط هذه المؤسسات، وتبقى سلطة واحدة فقط: الدولة، باعتبارها "الممثل الوحيد للعنف الشرعي"، كما عبّر هوبز وفلاسفة الدولة الحديثة.


4. أكذوبة "احترام كل الآراء"

حتى هذه الفكرة — "كل الآراء محترمة" — لا تصمد أمام الواقع.
ففي فرنسا مثلًا، إن أنكر شخصٌ المحرقة، يُسجن.

لماذا لا يُحترم رأيه؟
لأنّ الدولة الليبرالية لا تحترم كل الآراء فعلاً، بل تحترم ما يتماشى مع أيديولوجيتها فقط.

فإذا قلت إنّ الشذوذ محرم، فأنت متطرف.
إذا قلت إنّ للباس المرأة ضوابط، فأنت ظلامي.
إذا قلت إنّ الأسرة يجب أن تكون مؤسسة لها قيادة، فأنت سُلطوي.


5. من الفردانية إلى انقراض المجتمعات

حين تصبح الأنا فوق كل شيء، تبدأ المجتمعات في الانهيار:

  • يختفي مفهوم التضحية من أجل الأسرة.
  • يصبح الأطفال عبئًا على الحرية الفردية.
  • ينخفض الإنجاب حتى تحت حد الإحلال.

وكنتيجة لذلك في أوروبا، دخلت بعض الدول مرحلة الانقراض الديموغرافي فعليًا.

وهذا ليس حدثًا عارضًا، بل نتيجة طبيعية لفلسفة تضع راحة الفرد فوق وجود الأمة.


6. الإسلام: الدين الذي يُعيد الإنسان إلى مكانه الصحيح

بعكس الليبرالية التي تضع الرأي فوق كل شيء، فإن الإسلام:

  • يجعل الحق فوق الرأي.
  • يجعل الأسرة فوق النزوات.
  • يجعل الآخرة فوق الدنيا.
  • يجعل العبودية لله فوق عبودية النفس.

ولهذا، فالإسلام وحده القادر على إعادة التماسك المجتمعي، لأنّه لا يُقدّس الفرد، بل يُكرّمه بقيود، تحفظه وتحفظ من حوله.


خاتمة: حين يكون الهوى هو الحاكم

إذا تُركت الليبرالية تسود، فلن يبقى من الإنسان إلا جسدٌ يتبع شهوته، وعقلٌ معجبٌ برأيه، وأسرةٌ مفككة، ومجتمعٌ متآكل، وأمةٌ تتلاشى.

لكن إذا عاد المسلم إلى دينه، وأدرك أنّ الرأي يُوزن لا يُقدّس، وأنّ الأسرة أمانة، وأنّ القيم لا تتغير حسب المزاج، عندها فقط يمكن أن نُكسر هذا الصنم الحديث.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام