نهضة بلا إذن (43): صنم الليبرالية وتفكيك المجتمع: بين "حرية" الفرد وضياع الجماعة
في المجتمعات الليبرالية، تُقدَّس حرية الفرد وتُرفَع إلى مقام الإله الذي يُعبد من دون الله. كل رأي يجب أن يُحترم، وكل قيد يُعتبر اعتداء على "الذات". لا سلطة للأب، لا قدسية للعائلة، لا قيمة لروابط الدم، ولا مكان لمؤسسات المجتمع الوسيطة التي كانت في ما مضى تحفظ التماسك وتمنع الانهيار.
في هذا النموذج، الفرد وحده هو الأصل، والأسرة مجرد خيار، والطفل عبء مادي، والعلاقات الاجتماعية عبء نفسي. من الطبيعي إذن أن نرى هذا الكم من التفكك: معدلات طلاق غير مسبوقة، عزلة قاتلة، اكتئاب متفشٍ، خصوبة تذوب عامًا بعد عام… حتى صار إنجاب طفل في الغرب فعلاً "أنانيًا" في نظر بعضهم!
والسؤال: أين البديل؟
البديل هو الإسلام. لا كشعار، بل كنظام حياة يُنظِّم علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبمن حوله.
الإسلام لا يُهمّش الإنسان، لكنه لا يؤلِّهه.
لا يُذيب الفرد داخل الجماعة، لكنه لا يسلخه عنها. يعترف بالحب، والدم، والانتماء، لكنه يرفع فوقها كلها رابطة الإيمان.
حين بنى النبي ﷺ المجتمع، لم يبدأ من رأس الهرم السياسي، بل من نواة المجتمع: الأسرة.
فحين هاجر إلى المدينة، لم يعطِ المهاجرين أرضًا بقرار مركزي عشوائي، بل وزعها حسب الروابط العائلية والقبلية، بحيث يسكن الأقارب جنبًا إلى جنب. لماذا؟ ليبقى الدعم النفسي والمعنوي حاضرًا، ولتظل يد العون قريبة عند الأزمات. أراد مجتمعًا يقف كجسد واحد، لا أفرادًا مبعثرين بلا ظهر ولا عضد.
وفي تنظيم الجيش، لم يجمع الناس عشوائيًا، بل رتبهم في كتائب حسب انتماءاتهم القبلية.
لأن المقاتل حين يكون بجانب أخيه أو ابن عمّه، يقاتل بثبات، ويضحي بشجاعة، ويشعر أن ظهره محمي.
إنها نفس الفلسفة: تعزيز الروابط الطبيعية لاختبار المعركة، حتى تكون الأُمّة كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضه بعضًا.
حتى في التخطيط العمراني، راعى الإسلام هذا التماسك.
كان الناس في المدينة يعيشون في أحياء قبلية متماسكة. هذه البنية المجتمعية جعلت من العسير على الظالم أن يتغوّل، لأن المظلوم محاط بأهله، وله ظهير. ومَن نسي قصة الأحنف بن قيس، حين قال معاوية:
"إنه إن غضب، غضبت له مئة ألف سيف من تميم، لا يسألونه فيمَ غضب!"؟
يقول الشاعر:
لا يَسأَلونَ أَخاهُم حينَ يَندُبُهُم في النائِباتِ عَلى ما قالَ بُرهانا
هذه ليست قبلية عمياء، بل رابطة متجذرة تتحول إلى سلاح ضد الظلم حين تمتزج بروح الإيمان.
الإسلام يجمع ولا يُفرِّق.
يراعي الفطرة، لكنه يهذبها بالإيمان. لا يذيب الفرد في الجماعة كما تفعل الاشتراكية، ولا يتركه يتفكك كما تفعل الليبرالية، بل يجعله حجرًا في بناء عظيم: أمة واحدة، قلبها العقيدة، وشرايينها روابط القرابة، ودماؤها الرحمة.
في عالم ينهار فيه معنى الأسرة، وتُحرّف فيه فطرة البشر، ويُختزل الإنسان إلى آلة إنتاج واستهلاك، آن لنا أن نستفيق. لا نحتاج نظريات جديدة، بل أن نُزيل الغشاوة ونعود لما كان يعرفه أجدادنا: أن الإنسان بلا انتماء، بلا عائلة، بلا دين… هو لا شيء.
فلنكسر هذا الصنم الجديد، صنم "الفرد الحرّ" الذي يعبد هواه. ولنُعيد للأسرة قيمتها، وللأب مكانته، وللعلاقات معنىً أعمق من مجرد تَشارُك المسكن أو المصروف.
الإسلام لم يأتِ ليكبت الإنسان، بل ليُنقذه من أن يضيع في متاهة "الحرية" الزائفة التي تنتهي غالبًا إلى وحدة، وضياع، وشقاء.
خطوات عملية لإعادة بناء التماسك المجتمعي:
- قوّ
علاقتك بأسرتك الكبيرة
لا تكتفِ بأسرتك الصغيرة (الزوج/الزوجة والأولاد)، بل تواصل مع والديك، إخوتك، أعمامك، أخوالك. زُرهم، اتصل بهم، شاركهم مناسباتهم، وأحيِ روابط القرابة. هذا سيغرس في أولادك قيمة العائلة والقرابة بدلا من وعظهم بها دون ممارسة فعلية. -
حاول أن تختار سكنًا قريبًا من عائلتك أو من أقاربك أو من أهل الخير والمعروف. السكن المجاور يبني مجتمعات صغيرة مترابطة داخل المدن الكبيرة. -
اجتمع مع الجيران أو الأصدقاء المقربين لتأسيس "مجموعة دعم" تتعاون في الأمور اليومية: رعاية الأطفال، مساعدة المرضى، تقديم طعام أو خدمات لمن يحتاج… حتى لو بدأت بثلاثة أشخاص. -
إن سمعت بمظلوم، أو فقير، أو صاحب مصيبة، فادعُ الناس لمناصرته، وكن أول من يتحرك. لا تنتظر الدولة لتتصرف. -
لا تصادق من غلبت عليه الفردانية، ولا يحمل همّ الجماعة. ابحث عن مَن يؤمن بقيمة الترابط وبادر معه في مشاريع بسيطة تخدم الناس.
Comments
Post a Comment